(إن نقطة دم مصرية أثمن عندى من كل عروش الدنيا، والرحيل فورا أهون على قلبى من سفك دماء مصرية حفاظا على منصبى) (المللك فاروق) 26 يوليو 1952. إن الهدف الأساسى من تدوين التاريخ هو أن نتعلم منه، فإذا عجزنا عن فهم أحداثه والتأسى بالصالحين ممن كتب عنهم وعن أعمالهم، وإذا قصر فهمنا عن مغزى حكاياته أو الاعتبار بما وصل إلى أيدينا من رواياته فإن تدوين التاريخ يصبح عملا غير ذى قيمة وقراءته عبثا لا طائل من ورائه، والملك فاروق- رحمه الله- حين طلب منه الثوار أن يرحل عن البلاد وافق على الرحيل بعد أقل من ثلاثة أيام من الثورة، وتذكر كتب تاريخ تلك الفترة، وكتابها لا يزال العديدون منهم يعيشون بين ظهرانينا، أن قادة الحرس الملكى تعجبوا من قرار جلالة الملك بالرحيل، وطمأنوه أن شوكة الحرس الملكى قوية وأن إجهاض ثورة هذا الفريق من الجيش مهمة سهلة، بل إنهم شجعوا جلالته أن يأمرهم بإخماد الثورة لكن جلالة الملك آثر السلامة لشعبه، ورفض أن تراق قطرة دم لمصرى من أجل الاحتفاظ بعرشه وعرش آبائه وأجداده، وهكذا تكون أخلاق الملوك والزعماء الذين يخافون على شعوبهم، ومما يذكر أن الملك فاروق ومعه أسرته لم يكن لهم بيوت وعقارات فى أوروبا وأمريكا، ولم تكن أرصدتهم وحساباتهم السرية متخمة بمئات المليارات، برغم أن ثروة مصر كلها كانت تحت يده، وملك مصر كله طوع بنانه، واقتسم السادة الجدد ثروته وممتلكاته التى خلفها وراءه فى مصر وانطلق إلى عرض البحر، مودعا أيام الملكية الزائلة محافظا على حياة مواطنيه. وهنا يجب علينا أن نعتبر من قصة أخرى ربما هى الأشهر فى تاريخ روما، ففى منتصف المائة الأولى من التاريخ الميلادى حكم روما كلاوديوس قيصر نيرون الذى اتسمت كل تصرفاته بالوحشية والجنون مما جعله مضربا للأمثال، فقد قتل أمه ثم زوجته، ومن أجل أن يعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية، قتل بالسم بريتانيكوس ابن القيصر الأحق منه بتولى العرش، وفى فترة حكمه بدأ اضطهاد الرومان للمسيحيين، ووقعت عدة ثورات أحرق نيرون فى أعقابها روما الحريق الكبير عام 64 للميلاد، ويقال إنه جلس فى شرفة قصره يستمتع بمرأى ألسنة النار وهى تلتهم كل شىء فى مدينة الرومان الأجمل وهو يضحك بجنون، بعدها اندلعت ضده الثورة الكبرى التى انضم إلى الثائرون عليه فيها الحرس الإمبراطورى، فأنهى حياته القصيرة وانتحر عام 68 للميلاد ولم يتعد عمره اثنين وثلاثين عاما، ولم يفارقه غروره وصلفه حين موته فقال وهو يحتضر: (ما أعظم الفنان الذى سيخسره العالم بموتى)!! وهكذا يكون الطغاة والحكام الظالمون فى كل أوان؛ مغرورون أنانيون متبجحون، قتلة سفاحون، وكلهم يعتقد أن العالم سيخسر كثيرا إن هم رحلوا، مع أنه من المؤكد أن الحياة ستكون جميلة بدونهم ولكنه ابتلاء الله لشعب مصر- أقصد روما! وهنا أذكر قول الشاعر العظيم نزار قبانى فى قصيدته (السيرة الذاتية لسياف عربى): كلما فكرت أن أعتزل السلطة ينهانى ضميرى من ترى يحكم بعدى هؤلاء الطيبين؟ .......................... من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟ من ترى يصلبهم فوق الشجر؟ من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر ويموتوا كالبقر؟ كلما فكرت أن أتركهم فاضت دموعى كغمامة وتوكلت على الله وقررت بأن أركب الشعب من الآن إلى يوم القيامة. (انتهى) ترى .. من هذا الحاكم الذى نظم فيه نزار هذه الأبيات؟ الحجاج بن يوسف الثقفى؟ أتراه نيرون؟ أم من ذا يكون؟ سيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون . والله من وراء القصد .