منذ بضعة أشهر دعتنى الظروف للسفر لإحدى الدول الأوروبية وفى أحد المحال التجارية الكبرى وقعت عينى على جهاز لا تخطئه عين خبير – جهاز الصدمات الكهربائية للقلب – والذى يستعمله الأطباء داخل أقسام الرعاية المركزة لإنعاش القلب عند توقفه - ودفعنى الفضول للسؤال - وجاءتنى الإجابة, فقد شرعت حكومة تلك الدولة من القوانين ما يلزم المحال التجارية الكبرى والأماكن العامة التى يتردد عليها جموع كبيرة من الناس يوميا - باقتناء أجهزة إنقاذ الحياة، كما سنت من العقوبات للمخالفين ما دفع تلك المحال ليس فقط لاقتناء تلك الأجهزة، بل وتدرب أفراد المحال على استخدامها بصورة آمنة وفعالة. إن أروع ما فى الموضوع ليس الإحساس بأن هناك خدمة طبية عالية المستوى متاحة وحق مكفول للجميع، ولكن هو الإحساس بالثقة - الثقة فى أن الدولة تبذل قصارى جهدها فى إنقاذ مواطنيها ودعمهم صحيا، بل هو جزء من التوازن النفسى لأى مواطن منتج - شعوره بأن هناك من يتولاه وأسرته بالرعاية فور مرضه وحتى تمام التعافى ولن أخفى ما طالنى من الشعور بالتقدير والآسى معا. التقدير لحكومات وقيادات تلك الدول التى تعمل فى إطار ديمقراطى وتسعى لحشد وتطويع كل إمكاناتها، لكسب تأييد الشارع الذى انتخبها عن وعى وعن إرادة حرة. أما الأسى فلأننا وفى دولة بحجم مصر ومالها من ثقل وتراكم ثقافى وحضارى وإنسانى متأصل فى تاريخ الإنسانية - لا يزال يجهل معظم أبنائها الأعراض التى تهدد حياتهم، بل ويفشل الكثير منهم فى تلقى الإسعافات الفعالة والمنقذة لحياتهم لفشلهم فى الوصول إلى المستشفى فى توقيت مناسب. إن مصر أكبر من أن يتعرض أبناؤها لأزمات صحية خطيرة بسبب التوقف عن أخذ عقاقير ما لارتفاع ثمنها أو لغياب الوعى اللازم مع كل ما يترتب عل ذلك من تداعيات وأعباء نفسية ومادية على أسر المرضى. مصر أكبر من ألا يخضع أبناؤها المصابون بأمراض مزمنة كالقلب والفشل الكلوى لبرامج تأهيلية توفر لهم التوعية والدعم النفسى الضرورى لمزاولة الأنشطة اليومية. مصر أكبر من أن يلقى أبناؤها من المرضى كل تلك المشقة لاستصدار قرارات العلاج على نفقة الدولة. وجاءت الانتفاضة المصرية واتت بإنجازات ووعود إصلاحية لم يكن لأحد أن يتصورها.لقد حققت ثورة الخامس والعشرون من يناير ما لم نكن يوما نتصور أن يتحقق, ولا نزال ننظر إلى الآفاق، ونرجو حكومة منتخبة تعبر عن كل أطياف الشعب. لا نزال نرجو دستورا متكاملا يصون كرامة المصريين وحقهم فى الحياة والعلاج والتعليم والتعبير. لقد سمحت لنا هذه الانتفاضة العظيمة بأن نحلم, وأحيت فينا الأمل فى أن نسير يوما على أرض مصر كما فى البلاد الأخرى آمنين وواثقين أننا وأبناءنا سنتلقى الدعم الصحى - بدءاً من الإسعاف الفعال والسريع مرورا بكل أشكال الرعاية الصحية من الخدمات الدوائية أو الجراحية دون تباطؤ أو إهمال, دون إتجار أو فساد. لقد أثبتت الانتفاضة المصرية أن نهضة مصر مرتبطة بمجتمع مدنى مثقف وإيجابى، فاعل ومستنير, مجتمع يعى ويتفهم المشاكل التى تعانيها بلده - يشارك ويقدم الحلول كل من موقعه. ولأن الأشخاص زائلون والوطن باق أناشد المشرعين من حكماء هذا الوطن استصدار المزيد من التشريعات والقوانين التى تكفل الحياة الكريمة ليس فقط من المنظور الأمنى والسياسى، بل ووضع الخدمة الصحية فى مقدمة أولويات الإصلاح, فمصر فى أمس الحاجة إلى إجراء تغيرات أساسية ومحورية فى منظومة الرعاية الصحية. نحن نعيش لحظات فارقة فى تاريخ هذه الأمة، علينا أن نخرج من هذه الأزمة بما يكفل تقديم رعاية صحية أكثر تماسكا وأكثر حرصا على الحفاظ عل الأرواح. فمصر اليوم باتت لنا.. ونحن لها مدرس أمراض القلب والأوعية بطب عين شمس.