تفتح قائمة الماسينجر، فتجد "نجوى" اللبنانية "أون لاين"، نجوى هى اللبنانية الوحيدة التى ساعدتك الأقدار على التعرف بها، صحفية فى جريدة النهار، وأديبة، لها أعمال قصصية منشورة، اضطررتَ أنت إلى الكذب والتلفيق عليها؛ حتى تقنعها بإضافتك إلى الماسينجر، ادعيت أنك تعمل فى المحاماة، ولكنك تهوى الكلمة، وتكتب القصة القصيرة دون أن تنشرها. عندما طلبتْ منك أن ترسل إليها أعمالك، قلت لها إنك لا تستخدم الكمبيوتر فى كتابة الإبداع، تفضل أن يلمس كفك الورقة وتعانق أصابعك القلم، فتشعر معهما بحميمية تساعدك على الإفشاء بمكنوناتك. مُصرة هى على عدم إظهار صورتها لك، متعللة بأنها تفضل لعلاقتكما أن تستمر فى إطار فكرى روحى، بعيدًا عن أية مؤثرات جسدية، فتزداد أنت يقينًا بأنها من أجمل بنات الأرض، ولما لا وهى لبنانية، وأنت لم ترَ فى حياتك لبنانية "شكلها غلط"، عندما تتبادل معك الحديث باللهجة اللبنانية، تتخيلها فى ذهنك كوكتيلا من نانسى عجرم ونوال الزعبى وإليسا وهيفاء وهبى ونجوى كرم وباسكال مشعلانى وسيرين عبد النور ونيكول سابا، فتشعر أن جسدك بكامله فى حالة انتصاب، وأن الدم الذى يجرى فى عروقك سينفجر كالشلال من رأسك. عندما طلبتْ منك أن ترسل إحدى قصصك لمكتب كمبيوتر يكتبها لك، حتى تستطيع أن ترسلها إليها فى ملف وورد، قلت فى نفسك إن علاقتك مع تلك اللبنانية ستنتهى فى القريب، ولكن حرصك على استمرار العلاقة دفعك إلى التفكير فى السرقة. ذهبت إلى دكان صغير فى ميدان الرمل، يبيع الكتب القديمة، سألته عن مجموعات قصصية قديمة تعود إلى السبعينيات، دلك الرجل العجوز إلى أعداد قديمة من مجلة إبداع تعود إلى الثمانينيات، طلبتَ منه شراء عشرة أعداد، هى جميع أعداد المجلة الموجودة لديه، فطلب منك خمسة عشر جنيها، وعلى الرغم من أن أسلوب الرجل العجوز فى طلب المبلغ، كان يوحى بأنه قابل للفصال وتخفيض خمسة جنيهات أو ثلاثة على الأقل، فإنك أعطيته المبلغ بسعادة بالغة، وكأنك عثرت على كنز. اخترت العدد الثامن، من السنة السابعة، الصادر فى أغسطس 1989، كنت تبحث عن قصة لا تزيد عدد كلماتها على 400 كلمة حتى لا تضيع وقتًا طويلاً فى كتابتها، وحتى لا تضطر فى الوقوع تحت وطأة مناقشة نقدية من جانب نجوى، تظهر فيها قلة حيلتك. تقلب الصفحات المخصصة للقصة القصيرة، يلفت نظرك أنها تحتوى على قصص لأدباء من الأقاليم، مثل عبد المنعم الباز من المنصورة، وإسماعيل بكر من بنى سويف، ومحمد محمود عثمان من سوهاج، ومن البلاد العربية، مثل محمد صوف من المغرب، وإرادة الجبورى وحسب الله يحيى من العراق، بالإضافة إلى أدباء القاهرة: بهيجة حسين، وبدوى مطر، وربيع الصبروت. عثرت على قصتين قصيرتين لأمينة إبراهيم زيدان من السويس، الأولى تحكى بضمير المؤنث فاستبعدتها، أما الثانية فكانت بعنوان: "الراعى أيضا يثغو"، دون أن تقرأها تقرر السطو عليها وتبدأ فى الكتابة: "السور طويل ممتد، يتكئ الراعى على امتداده الخشبي، يهيب بخرافه أن تعبر، المسيرة طويلة ولكى تستمر يجب عبور السور، اللون الأخضر يتماوج بعد أميال عديدة من السور، خلف السور شريط من الخراف الساكنة الحركة..." تستمر فى الكتابة حتى تصل إلى: "يقفز خروف آخر تنتهى قفزته فوق ظهر الخروف الذى استقرت قفزته فوق ظهر الخروف الذى قفز للأرض.. ويقفز خروف آخر فوق ظهر خروف آخر استقر فوق ظهر خروف آخر يقف فوق الأرض، ويقفز آخر وآخر وآخر وآخر..." تتوقف عن تكملة كتابة القصة بعد اكتشافك أن أكثر من ثلث كلماتها لا يخرج عن ألفاظ خروف وخراف وآخر (أى خروف آخر)، خشيت أن تظن فيك نجوى اللبنانية أنك مجرد خروف. تشرع فى السطو على قصة "طقوس بشرية" لرضا البهات من المنصورة، تعجبك بدايتها التى يقول فيها: "الزيطة فى حارتنا خالدة، وأخلد ما فيها تصاخب العيال وخناقات النسوة، ومشاحنات الرجال، والتشاتم هذرا...". تُذكِّرك حارة البهات بحارتك فى الظاهرية، تشعر أنه يتحدث عنها، ولكنك تتراجع عن الكتابة بسبب طول القصة، ولذلك السبب استبعدتَ قصة "رائحة البلاد البعيدة" لمحمد عبد السلام العمرى من القاهرة، وقصة أغنام لمصطفى الأسمر من دمياط، أما قصة "الوثن"، فلم تستبعدها لطولها فقط، ولكن لأن كاتبها محسن الطوخى من الإسكندرية، فخجلت أن تسرق ابن بلدك. قررت، أخيرًا، أن تسطو على قصة "حدث عائلى" لنبيل القط من المنصورة. لم تصدق عينيك وأنت تطالع عبارات المديح من نجوى، أعجبتها القصة، واندفعت تثنى على أسلوبك الرقيق ولغتك البسيطة الحساسة، عندما قالت: "حلوة كتير يا أحمد.. أسلوبك رهيف ولغتك بسيطة عمبتعبر عن إحساس كتير عالي" انتشيت، وكأنك بالفعل صاحب القصة. سألتكَ نجوى إذا كنت كتبت تجربتك فى سراييفو أم لا، جاوبت بالنفي، فأبدت اندهاشها، وقالت لك إنك تملك كنزًا يتمثل فى تلك التجربة النادرة، وتستطيع بسهولها أن تنسجها فى خيوط درامية، بررتَ أنت إحجامك عن تسجيل تلك التجربة، باعتزازك بها وإجلالك لها، قلت لها إنك تفضل أن تبقى تلك الأيام ذكرى جميلة تحتفظ بها داخلك، على أن تتحول إلى مداد على الورق يفقدها قدسيتها. "عمتحكى عن أحداث ما حدا كتبها.. أنا مستغربة كتير من موقفك".. تقول لنفسك: "ولم لا؟" تصدق أنك صاحب القصة، وأنك تستطيع كتابة ما هو أكبر من القصة، أن تسرد تفاصيل مع حدث لك بسراييفو فى رواية، تقول لنجوى: "عشان خاطر عيونك إنتى بس أنا هبدأ أكتب فيها"، ترد عليك: "عظيم يا مصري.. عمبشعر إنك هتطلع شى حلو كتير هيعمل صدى هايل". تذهب إلى قصر ثقافة التذوق بسيدى جابر، تأخرت عن الموعد نصف ساعة، تسأل من يجلس أمام الباب عن ندوة الشاعر إسماعيل كمال، يشير لك الرجل إلى أعلى دون أن يتكلم، وكأنك لا تستحق الرد، بعد صعودك بضع درجات يواجهك باب لم تنغلق ضلفتاه بإحكام، تسمع صوتًا بالداخل، لا تميز كلماته، تدفع إحدى ضلفتى الباب فتجد مسرحًا يسع لحوالى خمسمائة شخص، لا يجلس فيه سوى عشرة أشخاص فى الصف الأول، وعلى خشبته يقف صديقك القديم إسماعيل، وعيون العشرة تتطلع إليه. عند دخولك تسمع تصفيق فاتر، تقترب، فتفهم أن إسماعيل انتهى لتوه من قصيدة، ويشرع فى إلقاء أخرى، وعلى الرغم من وجود أماكن خاوية فى الصف الأول، فضلت أن تجلس بمفردك فى الصف الثالث، ينظر إسماعيل إلى سقف المسرح، ثم يقول: "قصيدة بعنوان صينية البطاطس"، فتضحك أنت فى سرك، وتتساءل: "هل سيلقى إسماعيل شعرًا أم يعد طبق اليوم"، تنظر فى الأرض تارة ويمينًا ويسارًا تارة أخرى، وكأنك تحاول إقناع نفسك بأنك لست معهم، فكل ما يهمك من الأمر أن تنفرد بأديب الدفعة بعد انتهاء ندوته. يبدأ إسماعيل فى إلقاء صينية البطاطس، يقول: صينية البطاطس تختبئ خلف القمر المنهك دروب المستحيل استحالت رمادًا أمام سحر عينيها المنهكتين حبيبتى قفى أمام الحاتى حتى أراك وضعى نظارتك السوداء جانبا بالقرب من ميدان لاظوغلي هأنذا أولد من جديد فى شارع خيرت. وحدى وحدى أرحل منتظرًا المينى باص وحدى وحدى أغادر بلا تذكرة نحو ميدان السيدة زينب متى يأتى الموت.. أين يختبئ البحر؟ فين قلبى دلوني.. دلونى عليه بعد سماعك ل"صينية البطاطس" تنظر وراءك، تشعر بعار لم تشعر به وأنت تستقبل الساقطات وراغبى المتعة فى مكتبك، تقرر الهرب والنجاة بجلدك من تلك المجموعة، ولكن قبل أن تهم بالوقوف، ينظر إليك إسماعيل نظرة مباشرة، تضطر معها إلى التسمر فى مكانك، ثم يبتسم لك، ويومئ إليك برأسه، يخرج صوت من الصف الأول معلقًا على القصيدة، كان الرجل يعطيك ظهره، فلم تستطع سماعه، ثم بدأتُ تتبين ما يقوله: "شاعرنا هنا تعمد فى قصيدته أنه يذكر كل الأماكن من القاهرة، ميدان السيدة زينب، ميدان لاظوغلي، شارع خيرت، يمكن عشان يأكد على معنى الاغتراب اللى بيعيشه، وهنا الأماكن لم تأت اعتباطًا من الشاعر، فمن زار القاهرة وعاش فيها، يعلم أن شارع خيرت يربط بين السيدة زينب ولاظوغلي، أى أن شارع خيرت يدل على الربط بين القديم والحديث، واستغلال الحاكم للعلاقة الدينية، لأن آخره السيدة زينب، ولاظوغلى رمز مباشر للقمع الأمني". يرتفع صوت الرجل ويضيف: "الكبابجى اللى ذكره الشاعر فى بداية قصيدته رمز للحاكم الظالم الظظظظظااااالم"، تقول فى سرك: "الله يلعن أبوك يا إسماعيل.. كل ده من صينية البطاطس"، وبينما يدوس الرجل على "الظظظظالم" يقاطعه آخر صارخا: "أنا بختلف معاك يا أستاذ.. القصيدة فيها انعكاس واضح لأزمة اللحمة، وبدا ذلك واضحًا فى أن الشاعر طلب من حبيبته إنها تقف إلى جوار الحاتى وتقلع النضارة، والبطاطس نفسها ترمز إلى نقص الغذاء وأزمة الزراعة فى مصر.. وجدد الشاعر عن سابقيه بعدم الإشارة إلى الرغيف كالمعتاد، وعلينا أن ننتبه إلى أمر مهم للغاية وهو أن الشاعر لم يتحدث عن الشيبسى مثلا، وإنما أشار إلى صينية البطاطس راغبا بذلك فى استثارة التفكير فيما يتعلق بمكونات الصينية وخاصة الطماطم الحمراء، فى إشارة إلى أن البطاطس، أى غذاء المصريين، بات ممزوجًا بدماء الشعب ولم يتوقف عند حد العرق، أما المينى باص اللى أشار إليه الكاتب فكان بيعبر عن انتظار القائد والزعيم القادم لدفع قاطرة التنمية، وإن الأمل لسة موجود".