أستطيع أن أدعى ومن وجهة نظرى الشخصية التى تحتمل الصواب أو الخطأ أنه منذ اشتباك رجال القضاء مع الواقع السياسى الملتبس، بما له وما عليه، فقد فقدت هذه المؤسسة المدنية العريقة درجة من درجات سموها وتقديرها، وهو ما انعكس من خلال التعليقات على أحكامها النهائية.. فلم يكن هناك من قبل، سواء لفرد أم لمؤسسة، الجرأة على الاشتباك أو التعليق على أحكام القضاء.. فالقانون واضح وبيّن، وأحكام القضاء لها أساليبها فى الاعتراض أو الطعون عليها من خلال آليات قانونية سنها القانون ولا مجال على الإطلاق لغير ذلك من الاعتراض.. ولكننا لاحظنا فى الفترة الأخيرة اعتراض البعض ومن خلال قليل من القضاة أنفسهم على الأحكام القضائية لزملاء لهم، سواء بالتصريحات المباشرة أو غير المباشرة.. وهو ما ساهم فى انفلات وضعية سيادة القانون واهتزازه وأصبح مثار الغمز واللمز.. رغم أننا نمتلك نصوصا دستورية بينة ودامغة على استقلال هذه المؤسسة وسموها.. فيقول نص المادة 164 من الدستور المصرى.. "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون".. وتضيف المادة 165 ما يلى.. "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضاياهم لغير القانون ولا يجوز لأى سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة".. ويتسم النظام الديمقراطى أو حتى النظام قيد التحول للديمقراطى بتمتع أجهزة الحكم بالاستقلالية، فالقضاء أو المحاكم هى المسئولة عن تأمين الالتزام بالقانون، بتقرير ما إذا كان هناك انتهاك لأحكامه وبإصدار الأحكام بمعاقبة من تثبت إدانتهم.. والمحاكم باعتبارها مستقلة عن الهيئتين التشريعية والتنفيذية، تعمل دون خشية أو مجاملة فى ضمان التزام الموظفين العاملين بالقانون فى أداء أعمالهم.. والسؤال الذى يطرح نفسه فى ظل أى نظام ديمقراطى أو يسعى إليه، كيف تؤمن سيادة القانون.. إن سيادة القانون تجسد المبدأ البسيط القاضى بأن يعمل جميع موظفى الدولة ومواطنيها، على اختلاف مستوياتهم وتعليمهم وانتماءاتهم العقائدية، سواء دينية أم سياسية وغير ذلك فى إطار القانون والدستور.. ويمكن ببساطة اعتبار سيادة القانون حجر زاوية للحرية الفردية وللديمقراطية على السواء، فبدونها لا يمكن أن تكون هناك حماية للحقوق الفردية فى مواجهة السلطة التنفيذية، ولما كان مصدر القانون هو دستور ديمقراطى، فإنه يجب أن يكون التزام الجميع مواطنين أم مؤسسات تنفيذية أم غير ذلك به، أحد مقتضيات الديمقراطية.. ويجب من ثم اعتبار أى محاولات لتجاوز القواعد الإجرائية أو القانونية سواء من الرأى العام أو الإعلام أو المجتمع المدنى أو غير ذلك من وسائل الضغط بدعوى المصلحة الوطنية أو تحت ضغط مطلب شعبى عاجل، منافية للديمقراطية ومنافية لتجسيد مبدأ سيادة القانون.. وسيادة القانون لا تكون فعالة إلا بعد ما تكون هناك هيئة قضائية مستقلة للحفاظ عليها، وتقضى المادة (1) من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن الهيئة القضائية بأن تكفل الدولة استقلال الهيئة القضائية، وأن يسجل هذا الاستقلال فى دستور البلد أو قوانينه، وهو ما أشرنا إليه فى المادتين 164 و 165 من الدستور المصرى.. أى أن هذا الاستقلال موجود بالفعل وراسخ فى "كتاب الوطن" أى الدستور المصرى، إذن فلا مجال للمزايدة أو الانقضاض على ذلك الأصل بمظاهرة هنا أو هناك أو تلميحات هنا أو هناك، مما يؤدى إلى اختراق القانون والالتفاف عليه لمصالح بعينها.. فالقضاء مستقل بحكم النص الدستورى، وهو متوافق مع نص المادة (1) من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة، وهو مستقل بطبيعته وكينونته، فالاستقلال هو استقلال جماعى للهيمنة القضائية، وهو أيضا شخصى لكل من القضاة فى أداء مهامهم دون خشية أمر مجاملة.. ولكن السؤال، ما هى وضعية هذه الاستقلالية مع مناخ قد يشوبه بعض الفساد، سواء على المستوى السياسى للحصول على مكاسب خاصة، وهو ما يفقد المواطنين قناعاتهم بالعملية الديمقراطية إلى حد قد يعتقد معه الناس أن الديمقراطية ليست جديرة بالدفاع عنها.. أم على المستوى الاقتصادى بأن يستغل أصحاب النفوذ المالى وضعيتهم فى المجتمع ويحصلون على ما ليس لهم به حق، فتنتشر روح اليأس بين أفراد المجتمع، ويفقدون الثقة فى إحلال الأمان الاجتماعى فى المجتمع، أقول.. إن وضعية الاستقلال هنا - أى استقلال الهيئة القضائية وسيادة القانون - هى التى منوط بها محاربة هذا الفساد بجدية وبذل الجهود لتقليصه إلى أدنى حد، حتى وإن كان لا يمكن القضاء عليه كلية.. ولا توجد مؤسسة قادرة على هذا إلا المؤسسة القانونية، وبالتالى لا يجوز اتهام أى شخص أو مؤسسة أو غير ذلك إلا من خلال الأطر القانونية وأن تأخذ آليات العدالة وفقا للقانون مجراها، ولا يسمح أو لابد وألا يسمح بأى ضغوط شعبية كانت أم إعلامية أم غيرها للتأثير على سير آليات تحقيق العدالة عبر الأطر القانونية، وأن من يتجاوز ذلك فهو يساهم فى إعاقة الوصول بالقانون إلى المحطة النهائية لغرضه وفلسفته وروحه وهو تحقيق العدل.. كما لا يجوز على الإطلاق إصدار أحكام مرسلة وإنشائية من أية جهة كانت "علت أو صغرت" سواء بالإدانة أو البراءة إلا من خلال القانون، وبالتالى تتحقق فكرة سيادة القانون وما تفضى إليها من عدالة مرجوة وغائبة... ويكون شعار "باسم القانون.. افتح يا.. للوصول إلى الحقيقة" هو الأصل.. فالحقيقة غالبا يكون قطار الوصول إليها هو القانون، وسائق هذا القطار هو رجل القانون، سواء أكان جالسا على المنصة أم واقفا مدافعا، فالكل يقدم براهينه وتخضع هذه البراهين للمنطق والقانون، وبمقتضاها تصدر الأحكام من منصة العدل والميزان.. إذن لا مجال هنا لا للتعليق على الأحكام إلا من خلال الآليات القانونية ولا مجال لاتهام شخص ومحاكمته وإصدار الأحكام الشعبية قبل ركوب قطار القانون.. فإذا صدر حكم مثلا ببراءة صاحب قضية أكياس الدم الفاسدة، أو صاحب العبارة المنكوبة، أو وزير اتهم بقضايا فساد يجب أن يحترم المجتمع بكل مؤسساته هذا الحكم، وإذا كان قد تم تشويهه أو إصدار أحكام مسبقة بإدانته، فعلى الجميع أن يمنحه تعويضا أدبيا ومعنويا ليس بالاعتذار فحسب، بل بالقناعة التامة والإيمان العميق بأن حكم المحكمة، هو القرار الفصل فى براءته، ليس فقط أمام القانون، ولكن أمام المجتمع بأكمله.. وبالتالى يجب أن تعى جميع القوى الساعية إلى الديمقراطية والدولة المدنية، التى أول معاييرها دولة القانون وسيادته وعدم اختراقه أو الالتفاف عليه، أن تكافح من أجل إعلاء شأن القانون باحترامه والاحتكام إليه واحترام نتائجه، وتجاوز الشعارات المطاطية والجوفاء التى بلا سند ولا أسانيد، فقط لإثارة لعاب المتعطشين للأزمات والفضائح.. وأن تسعى هذه القوى لترسيخ ثقافة احترام القانون واحتقار ثقافة التهييج والصراخ والإشاعات والتخمينات.. وأخيرا.. هل تتذكرون القضية الدراماتيكية للدكتور محيى الدين غريب، الذى أدانته كل قوى المجتمع وصارت سيرته على كل لسان بكل ما هو مشين، وحاكمته وأصدرت حكمها بالإدانة، ثم خلعت عليه المحكمة بقانونها البراءة المدوية، فهل شعر الذين أدانوه معنويا وأصدروا حكمهم بالخزى أم تناسوا الأمر، وظلوا على اعتقادهم رغم براءته؟.. وحتى لا يتكرر ذلك مع آخرين، نأمل أن نستفيد من دروس إقحام الباطل بالحق.. فالحق والقانون هما بوابة العدل والكرامة والإنسانية.. ولنرفع عن هيئات القضاء إسقاطاتنا المرسلة، ونحترم استقلالها ونربأ بها عن الاشتباك بالواقع السياسى، فهم موكلون بتحقيق العدالة أيا كان شكل وطبيعة النظام السياسى، فالحق والعدل فوق الأمة والنظام..