تستطيع بسهولة أن تعرف من سيحكم بريطانيا بعد انتخابات 2010 المتوقعة, فهناك فى البرلمان زعيم يطرح نفسه بأنه أصلح لتولى هذه المهمة وإنقاذ البلاد. ويؤكد ديفيد كاميرون على قدراته بقيادة أفضل من الحالية التى يمثلها جوردون براون زعيم الحزب الحاكم ورئيس الوزراء . ومنذ صعوده إلى قمة المحافظين وزعيمه يطرح برامجه بشأن كل شئ, من أول الاقتصاد حتى القضايا الاجتماعية والصحية والثقافية والرياضية أيضاً, لذلك عندما يتوجه الناخب إلى صناديق الاقتراع, يصوت لزعيم يعرفه جيداً ولم يهبط عليه بالبراشوت من السماء . وسيقارن الناخب بين كاميرون و براون الزعيم الحالى الذى يصر بدوره على دخول الانتخابات العامة المقبلة, ويبدأ من الآن طرح تعديلات على مواقف حكومته لتحويل الاحتجاج ضد سياساته إلى أوراق تساند طموحه للبقاء فى موقعه . وعندما انتخب اللندنيون المحافظ بوريس جونسون, جاء ذلك بفارق أصوات 5 قليلة, مع منافسه العمدة السابق كين ليفينجستون . وقد أقنع العمدة المنتخب سكان لندن بامتلاكه سياسة أفضل تعالج قضايا المواصلات العامة والنظافة فى شوارع العاصمة والازدحام والتلوث والاختناق وضبط الجريمة والتصدى لها. وقد فضل الناخب الانحياز إلى بوريس على الرغم من حملة قاسية ضده, اتهمته بالعنصرية والتطرف معاً وكراهية الأقليات, غير أنه نزل إلى الشارع اللندنى وتحاور مع الناخبين لإقناعهم بأنه يختلف عن هذه الدعايات ضده . وأجبرت المنافسة الانتخابية على "العمودية" أن يحسن بوريس الكثير من سياساته ويجعلها واقعية وتستجيب لعاصمة تعددية تسكنها أقليات وعرقيات وأصحاب ديانات مختلفة وتضم أكبر مركز للمال والبنوك فى العالم . عندما نجح "العمدة" الجديد, تعهد نتيجة خبرات فى جولات الشوارع مع الناخبين, بالمزيد من التعاون مع الجاليات وفهم مطالبها. لقد غيرت مسيرة الضغط الديمقراطى من مواقف مرشح يقال بأنه يميني, ليتبنى مطالب الشارع وضغوطه وطموحه وأحلامه, لأنك عندما تكون فى السلطة تنفذ ما يطلبه منك الناس, ولا تعمل لصالح نفسك. الناخب هنا هو الفيصل, والقادر على طرد نواب من البرلمان وإزاحة حكام وتغييرهم. وقد فعل ذلك مع عمدة لندن السابق, الذى يُوصف بأنه تقدمى ومؤيد للأقليات والحقوق , لكن مزاج الناخب تغير ويسعى للتجديد, ولا يريد التوقيع على بياض لشخصية سياسية, مهما كان تأثيرها . لعل ما يحدث على الساحة البريطانية يؤكد ذلك, فحزب العمال حقق الكثير لبريطانيا, لكنه مستمر فى الحكم منذ عام 1997. وعلى الرغم من تغيير القيادة من تونى بلير إلى جوردون براون , فإن الناخبين ضاقوا بالجمود ويريدون رؤية الدماء الجديدة مثل زعامة ديفيد كاميرون, التى تصعد فى سماء الحياة السياسية بهذا الزخم من التألق . وقد عانى البريطانيون من الحزب المحافظ فى السابق وألقوا به فى المعارضة, حتى يتعلم ويغير نفسه ويستند على سياسات لديها القبول الشعبى. وغيّر المحافظون قياداتهم منذ هزيمتهم فى عام 1997, حتى يحصلوا على مصداقية فى أوساط الرأى العام. واستطاع كاميرون الشاب بجاذبية سياساته وبلاغته وصدقه, أن ينزع هذه الثقة ويبدو قادراً على المنافسة, وحقق ذلك فى انتخابات المحليات, ويجهز نفسه من الآن للأخرى العامة . والحياة الديمقراطية تستند على الوضوح وقدرة الرأى العام على اختيار الزعماء ورؤساء الحكومات طبقاً لبرامجهم وخلال انتخابات عمدة لندن تعرض مرشحين لاختبارات من كل القوى السياسية والشعبية, ودخل الإعلام المستقل الحلبة يفحص برامج كل مرشح واختبارها بقسوة وتهكم, لإبراز الوجه الحقيقى لها وإسقاط وهج الدعايات عنها. وإذا تولى ديفيد كاميرون رئاسة الحكومة البريطانية نتيجة فوزه فى انتخابات عام 2010, فسيكون الرأى العام على بينة كاملة من برامجه وأفكاره, ولن يدفعه الزعيم الجديد إلى خيارات لا يوافق عليها أو لا يعرفها, أى لن يدعوه الحاكم المنتخب بإرادة المواطنين, إلى اشتراكية متطرفة أو رأسمالية جامحة , لم يطرحها خلال حملته الانتخابية ولم يحصل على موافقة الناخبين عليها . والمهم إدراك أن كافة تغيرات بريطانيا فى تطبيق المناهج الاقتصادية بكل أنواعها, كانت بموافقة الرأى العام. وعندما خرجت البلاد منتصرة فى حربها مع النازية, انحازت إلى حزب العمال ببرنامجه الاشتراكى لتعويض كل الشعب عن معاناة طويلة بتطبيق فوائد دولة الرفاه والتأمينات. عندما وصل هذا الطريق الأخير إلى مأزق فى عهد حكومة جيمس كالاهان , انحازت بريطانيا إلى رأسمالية متجددة وشعبية بقيادة مارجريت تاتشر. وعندما عانت "التاتشرية" من صعوبات, لوصولها إلى مرحلة الاختناق, جاء حزب العمال الجديد بأفكار تونى بلير الإصلاحية واستمر هذا التيار لمدة عشر سنوات يحقق النجاح والإنجازات , لكنه انتهى نتيجة تبدد الابتكارات السياسية, لذلك يبحث الرأى العام عن زعيم جديد , فيطل ديفيد كاميرون بأفكاره المتطورة والمبتكرة لدفع مسيرة المجتمع قفزات إلى الأمام , لكن هذا الزعيم المنتظر أمامه فترة ليثبت للناخبين بأنه يمكن تحويل برامجه إلى خطط تطبق على أرض الواقع. أما نحن فالحكومات تأتى وتذهب ولا نعرف لماذا؟ وننتقل من اشتراكية ساذجة إلى رأسمالية بدائية دون موافقة مباشرة عبر صناديق الانتخابات, غير الصالحة لأحوالنا كما يقولون لنا دائماً. ويهبط من سماء المفاجآت رؤساء وزراء لم نسمع عنهم قط, لكى يتولوا هذا المنصب الرفيع , ويطبقون سياسات لم تطرح من قبل ولم يقدمها خبراء وتستند إلى قرارات علمية مدروسة . وقد دخل د . أحمد نظيف الوزارة وتولى حقيبة بها, دون أن نعلم شيئاً عن مفهومه السياسى أو انحيازاته للمدارس الاقتصادية. وانتقل بهذا الوضع المجهول إلى رئاسة الوزراء, ويطبق سياسة تخصيص واسعة, لم تدرس الظروف والأوضاع الاقتصادية بشكل جيد, لذلك اندلعت الخلافات والاحتجاجات ويدفع المجتمع كله إلا فئة قليلة ثمن هذه التطبيقات المتسرعة لمنطق رأسمالى عشوائى بالكامل. وأذكر أن حزب العمال الجديد, قبل توليه السلطة فى عهد زعامة تونى بلير , سعى لإلغاء المادة الرابعة من دستوره, التى تحض على تأميم وسائل الإنتاج . وانتهى هذا التغيير إلى تعديل المواد وحذف هذه الفقرة, لكن بعد مناقشات صارخة وجدال عنيف واحتجاجات من فئات وقطاعات, أقرت الأغلبية بعد اقتناع عبور هذا الاختيار الاشتراكى إلى آخر رأسمالي. وأصبح زعيم الحزب متحرراً من هذا الالتزام, مما دفع تونى بلير وحكومته عندما تولى زعامة الحزب والحكومة لتطبيق سياسة التخصيص والالتزام بها مع مساندة شعبية تعرف أبعاد هذا النهج, وأنه سيصب فى صالح الحياة البريطانية كلها, وليس فى جيب فئة تنفق هذا العائد على البذخ وأفراح الأنجال.