يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) - الأحقاف 15. تتحدث الآية الكريمة عن إحدى أهم وصايا القرآن للإنسان المسلم الإحسان لوالديه، والبر بهما، لأنه بمنتهى البساطة لم يشب فجأة، وإنما كانت كل مراحل نموه وتربيته وتعليمه تنضح بالمشقة والإرهاق والكد والتعب، منذ كان وليداً لا يتعدى حجمه نصف ذراع، حتى أصبح رجلا فى الأربعين من عمره . فالإنسان يمر منذ ميلاده بمراحل متعاقبة من النمو البدنى والعقلى والنفسى، تصل به إلى قمة النضج عند الأربعين، فهو فى البداية وليدٌ فرضيع، وقد تحدث القرآن عن هذه المرحلة حين خاطب فرعون موسى عليه السلام: ( قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) – الشعراء 18، ثم يكبر فيصبح صبيا، ويحيى عليه السلام أوتى الحكم صبيا ، ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) - مريم 12 ، ثم فتىً ، يقول القرآن فى قصة إبراهيم عليه السلام: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) - الأنبياء 60 ، ثم كهلاً ، ومن الأخطاء الشائعة استعمال كلمة ( كهل ) للإشارة إلى الشيخ ، فيقال: كهلٌ فى السبعين، والصحيح أن الكهل هو من كان عمره بين الخامسة والعشرين والأربعين، فالقرآن الكريم يقول عن عيسى عليه السلام: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) - آل عمران 46. فإذا بلغ الكهل الأربعين أصبح رجلاً ، والنبى صلى الله عليه وسلم حين تزوج من السيدة خديجة رضى الله عنها ؛ كان فى الخامسة والعشرين؛ أى كان فى سن الكهولة، ولم يُبعث صلى الله عليه وسلم إلا حين بلغ الأربعين، فما الذى يحدث للإنسان حين يبلغ الأربعين من عمره؟ ونتساءل .. ولماذا كان عمر الأربعين علامة بلوغ الأشد فى النص الكريم؟ يبدو من تأمل بعض آيات القرآن أن السن بين الثلاثين والأربعين هى سن بلوغ الأشُد، ففى مجال حديث القرآن عن موسى عليه السلام؛ يقول: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) - القصص 14 ، وفى حديثه عن يوسف عليه السلام ؛ يقول: ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) - يوسف 22 ، وفى الآية الكريمة التى نحن بصددها يتحدث القرآن عن بلوغ الأشد عند الأربعين، فسن الأربعين هى السن التى يكتمل فيها نمو الإنسان العقلى ، فتستقر قدراته ، وتكتمل طاقاته ، ويكون عقله أكمل ما يكون فى التفكير والتدبر واتخاذ القرارات ، فى هدوء لا يتوفر له قبل الأربعين ، ويزيد على كل هذا مع الأنبياء أن يؤتيهم الله الحكمة والعلم ، فبدونهما يكون النبى إنسانا عاديا بلغ الأربعين من عمره ، يتمتع بما يتمتع به كل من بلغها. ثم تتابع الآية الكريمة بذكر دعاء الرجل الصالح بعدما بلغ الأربعين، إنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يهبه القدرة على حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه وعلى والديه، ثم أن ينعم عليه بالقدرة على القيام بمزيد من الأعمال الصالحة التى تُرضى الله الكريم المنعم ، ثم أن يصلح الله تبارك وتعالى له ذريته ، ويختم دعاءه لربه بإعلان التوبة والإسلام لله. وهؤلاء الذين يحسنون إلى والديهم، ويتوجهون بمثل هذا الدعاء المخلص إلى الله تبارك وتعالى؛ تقول عنهم الآية التالية: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) – الأحقاف 16 صدق الله العظيم. والله من وراء القصد. * سورية مقيمة فى مصر