على مقهى قريب من مطعم، جلست مع صديقى "الرفحاوى" الذى اتصل بأحد أقاربه ويدعى زياد لينضم إلينا، وبعد تناول الشاى، وتبادل أطراف الحوار، قلت له: "نفسى أشوف الأنفاق". المطلب كان مفاجأة وقعت على زياد، لكننى كنت مستعداً بكل وسائل الإقناع، يسبقنى فى ذلك كل الضجة الإعلامية والسياسية عنها، والتى تصل بين رفح داخل الحدود الفلسطينية، ورفح داخل سيناء، هذا التقسيم الذى يجعل مصر دائماً مادة اتهامات من إسرائيل بأنها مسئولة عن تهريب السلاح عبر هذه الأنفاق إلى غزة، وجاء رد الرئيس مبارك فى جملة شهيرة: "مش الأنفاق دى لها فتحتين، طب ما يقفلوها من ناحيتهم". رد الرئيس مبارك المتهكم، لم يرق لإسرائيل، لكنه كان بمثابة تخيل من عندى يتمثل فى: هل يمكن معرفة "الفتحة" التى هى فى حدودنا، والنزول منها مثلاً، والمرور فيها وكأنها طريق لعبور المشاة ينتهى بك إلى الفتحة الثانية »رفح داخل فلسطين"؟!. كيف بدأت مغامرة رؤية الأنفاق؟ القصة بدأت بالصدفة، وللعلم فإن الرحلة إلى غزة تتم بالوسائل العادية. فالمسافة من "رفح" المصرية حتى بوابة "صلاح الدين "على حدود" رفح" الفلسطينية 5 كيلو مترات، لابد من قطعها سيراً على الأقدام، بعد رحلة أطول من العريش إلى رفح على "موتوسيكل" لتعذر المواصلات. مقهى صغير فى رفح الفلسطينية جمعنى مع عدد من الفلسطينيين، بينهم صديق لى، مما جعلهم يطمئنون إلىّ، اثنان منهم قالا إنهما عملا من قبل فى الأنفاق، ويعرفان أماكن بعضها. "عاهد 18) "سنة)، من رفح الفلسطينية ينتمى إلى حركة "حماس"، يقول :مع طول الحصار الإسرائيلى لغزة نبحث عن أى عمل مهما كان شاقاً، للحصول على أى قدر من المال أستطيع العيش به، وعبر وسيط وافقت "حماس" على اشتراكنا فى حفر الأنفاق مقابل عائد مادى جيد مقارنة بأى عمل آخر، لأنه عمل سرى لا يسمح بالعمل فيه إلا لأهل الثقة، كما يشترط فيمن يعمل فى حفر الأنفاق أن يكون شاباً وقوياً لصعوبة العمل. فى البداية يتم تجميعنا وتحديد أماكن العمل، ولابد أن تكون بداية النفق أو "المدخل" فى أحد المنازل القريبة من خط الحدود على بعد 100 أو 200 متر على الأكثر، ومعظم المنازل التى يتم الحفر من داخلها تكون شبه مهجورة، وعدد طوابقها أكثر من اثنين حتى تتسع الحجرات لكمية الرمال التى يتم إخراجها بعد الحفر. "محمود" (20 سنة)، من رفح أيضاً يكمل كلام "عاهد" قائلاً: الحفر، أولاً حفرة 2 متر× 2متر، ثم نحفر منها حتى نصل إلى عمق من 8 إلى 12 متراً، وهذا يسمى "مدخل النفق"، والحفر ليس يدوياً وإنما بأجهزة حفر حديثة واستخدام سلالم للهبوط والصعود، ويتم إخراج الرمل الناتج عن الحفر عبر "بكّر" يعمل بالكهرباء، وبعد حفر"المدخل" يتم تحديد"المخرج" عن طريق جهاز يرصد البعد بدقة شديدة. بعد حفر المدخل يبدأ حفر النفق على عمق 10 أمتار، وبقطر لا يزيد على نصف متر أو متر حتى لا يتعرض لانهيارات أرضية قد تؤدى إلى انسداده، لأن هذه الأنفاق تترك على طبيعتها ولا يتم تبطينها بالأسمنت أو المعدن، ويستمر الحفر تحت الحدود حتى يصل إلى منزل يمتلكه مصرى من أصل فلسطينى أو له نسب أو قرابة بالفلسطينيين لضمان السرية التامة. صديقى الرفحاوى اصطحبنى إلى شارع "أبوبكر الصديق"، وهو الشارع الذى يوجد به مقر إدارة الشرطة الرئيسى، توجهنا إلى مطعم لتناول الطعام بعد 24 ساعة متواصلة من عدم الأكل، الأسعار لا تختلف كثيراً عن الجانب المصرى، ساندويتش الشاورمة الكبير بحوالى 10 جنيهات، وعلبة المياه الغازية بحوالى 6 جنيهات، بعدها اتصل صديقى بقريبه زياد، فحضر إلينا وجلسنا على مقهى قريب من المطعم، وبعد تناول الشاى طلبت منه أن يرينا الأنفاق، فتغير وجهه فجأة، ونظر بلوم إلى صديقى، وهم بالانصراف إلا أن صديقى تدخل بسرعة قائلاً: يا عم زياد الراجل صاحبى.. مش بتاع تهريب ولا تبع الأمن ولا حاجة خالص.. ونفسه يشوف الأنفاق. بعد معاناة شديدة وافق زياد على اصطحابنا إلى أحد الأنفاق. الدخول فى النفق المظلم الظلام كان يخيم على المكان بالقرب من الحدود لانقطاع الكهرباء، وكنا نسير بحذر شديد، أدخلنا زياد إلى بيت من 3 أدوار مدمر من الخارج نتيجة قصف إسرائيلى سابق، بعد أن عبرنا السلم نزلنا إلى حجرة أشبه ب"البدروم"، وهبطنا بسلم خشبى إلى حجرة أخرى أسفل الأولى، فأزال "زياد" السجادة التى تغطى أرضيتها، فكشف عن غطاء حديدى، رفعه فكانت المفاجأة غير المتوقعة، نفق يشبه البئر التى يحفرها البدو فى الصحراء للحصول على المياه العذبة، إلا أن النفق كان مضاء حتى نهايته، حاولت النزول إلى النفق إلا أن صاحبى حذرنى بنظرة من عينه، وهو يدفعنى إلى الخارج قائلاً: "كفاية كده" خرجنا وأنا أشكر"زياد" بشدة. صاحبى قادنى إلى المقهى مرة أخرى، فسألته كيف يتم تهريب السلاح عبر هذا النفق الضيق؟ فأجابنى: "أنتم المصريون خياب"، فغضبت منه إلا أنه كان يضحك، ثم قال: نحن لا نهرب الأسلحة عبر الأنفاق، هذه تجارة خطرة وغير مأمونة العواقب، هذه الأنفاق تم حفرها لتهريب الدخان وقطع الغيار والأغذية والمنظفات، وتسعيرة التهريب معلومة 100 دولار مقابل 30 كيلو يتم تهريبها، وهذه البضائع لا تهرب بواسطة الزحف كما يعتقد البعض وإنما عن طريق "بكر كهربائى" وطول النفق لا يتجاوز 300 أو 400 متر. الأرباح التى يتم تحقيقها من وراء تهريب البضائع كبيرة كما يقول صديقى، فعلبة السجائر التى تباع ب5 جنيهات فى مصر تباع هناك بحوالى 20 شيكلاً إسرائيلياً وقت الحصار، وتسلم البضاعة ونقلها يتم بشكل شديد السرية، والأشخاص محدودون حتى لا ينكشف أمر النفق فتقوم السلطات المصرية بتدميره، وهو ما يكلف خسارة تقدر بعشرات ومئات الآلاف من الدولارات. مصر أعلنت ضبط كميات كبيرة من الأسلحة فى الأنفاق، هكذا قلت لصديقى، بعد أن حاول إقناعى بعدم تهريب الأسلحة عبر الأنفاق، فأجاب :هناك نوعان من الأنفاق، أنفاق عسكرية وهى ذات طبيعة مختلفة، وأنفاق مدنية لتهريب البضائع. القهوة التى كنا نشربها انتهت، فقمت لأدفع الحساب إلا أنه منعنى وقال لى إننى ضيفه، فدفع الحساب، وعدنا مرة أخرى لنفترق على الحدود، دخلت أنا إلى مصر وعاد هو إلى رفح، إلى حيث الأنفاق السرية التى تمثل عالماً متكاملاً شديد السرية والخطورة.