من يحكم مصر؟ سؤال يبدو بسيطا، ولكنه يستدعي سؤالا آخر، ولمصلحة من؟، وكلما استطردنا في بحث توازن القوى، ظلت كلمة "ماهية الرؤية الحاكمة" لطبيعة التوازن تلح علينا، لنتمكن من تحديد طبيعة الأطراف في لعبة التوازن، ومن أي خندق نجري حسابات التوازن؟ من الإنصاف الإقرار أننا نحيا في عالمنا في قشرة السطح منه، وعمق القشرة لا يتحدد بحجم الكم العددي، ولكن يحدده حجم المتوافر من معلومات، والقدرة على تحليلها والتنبؤ بالقادم. نعم نحن نلوذ بقيم نراها من حق الشعوب، ونتمسك بحقيقة أن الشعوب هي القادرة على البقاء، وهي المالكة للمستقبل، والشعوب هي القادرة على هزيمة كل صور الغدر والعدوان والاستغلال والإرهاب، شريطة أن تستطيع كشف الحقائق والإمساك بها وأن يستقر هذا في وعيها. نعم الشعوب لا تستخلص إرادتها لتضعها في متاحف التاريخ، ولكن لتعيد صياغة الحياة بما يوفر لها الرخاء والنمو والعدل، ولكن لم تعد هناك متاحف لإرادة الشعوب في العصر الحالي، ولكن هناك قراصنة وثعالب وجيوشا، بل إن الجيوش لم تعد جيوش دول تحترم المعاهدات أو المواثيق والأعراف في الحرب النبيلة إن كانت هناك حروب نبيلة أو أخلاق الفرسان، خاصة بعد أن باتت الجيوش من المرتزقة، مدفوعي الأجر، وجرى خصخصة الحروب كما الاقتصاد والشركات، بل جرى استخدام "الطينة من العجينة"، أي خلق حالات الاقتتال الداخلي بديلا عن الغزو الخارجي. الأفكار في عالمنا، خيرا كانت أو شرا، لا تولد لتموت، ولكنها تبقى قد تزوى بعض الوقت، لتلائم نفسها والبيئة التي تنمو فيها، ولكن أخطر ما يصيبها أن تبقى حبيسة أنماط تجاوزها الوقت والعلاقات والقوى والمعرفة ومناهج العمل. وفي عالم صناعة القوى وصراعها، لا تأتي الأفكار من إرادات أشخاص يتوهمون أو عباقرة يصيغون، ولكن تنتجها إرادات ومصالح ورؤى وخطط وأهداف في المستقبل. وأولئك الذين يحد تفكيرهم مدى بصرهم وفقط، وعلاقات بيئتهم الشخصية، دون أن يتجاوزوا ذلك إلى الكون والمطلق والعالم الذي يعيشون، يصابون بعمى الرؤية وذرية التفكير. كشفت مباراة كرة قدم في مصر تحول العقل إلى شظايا، ومدى غياب الإدراك، وصار الدم أهون من الماء، رغم أن الصراع على الماء يقترب من الحرب الدامية، وكشفت حجم الخلل المضطرد في أداء أجهزة وكيانات أمنية وقضائية وإعلامية وسياسية داخل مصر. توهم أن الخلل مجرد سمة ذاتية في الأجهزة وبناء الدولة هو هروب من المسؤولية، وهروب أيضاً من مواجهة النفس، فالخلل ليس في الأداء ولكن الخلل في القناعات والانتماء والرؤية وما يترتب عليها من مسؤوليات، ويبقى دائما السؤال لمصلحة من السير في اتجاه مضاد لحاجة الشعب والمهام التي يجب الاضطلاع بها لإنجاز هذه المهام، حتى أن القول بأنهم مدفوعون إلى هذا بإرادة الغير صار الأقرب إلى القبول عن أن ما يفعلون ناتج طبيعي لكونهم أعضاء في هذا المجتمع، يعيشونه كما يعيش التسعون مليونا أيامهم. لم تكن مباراة كرة القدم وحدها هي الواقعة الكاشفة، سبقها الحديث حول قرض صندوق النقد الدولي لمصر، حديث أقرب إلى المراهقة الاقتصادية والسياسية والدينية، في شأن توصيفه بأنه قرض ربوي وبذلك فهو حرام، وكأن الربا فقط مالي، وغاب عن العقول مفهوم آخر هو الربا الاجتماعي، أي ما يدفعة المجتمع من أعباء نتيجة شروط القروض وليس مجرد معدل الفائدة، وتلك الأجندات الخاصة التي تتحرك على أساسها عمليات الإقراض، وحركة الأموال والاستثمار في عالم اليوم بين الدول. لم تعد صورة "شيلوك" المرابي اليهودي التي رسمها شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية، هي صورة الشيطان الذي اشترط على المدين إن عجز عن دفع دينه وفوائده في الموعد المحدد، أن يقطع رطلا من لحمه الحي، ولكن الصورة الحديثة تعدلت، فالمرابي لم يعد شخصا ولكنه شركات وعناصر تتسلح بالمعرفة والعلم والتكنولوجيا ويطلقون على أنفسهم "قراصنة الاقتصاد"، ولم يعد المدين شخصا، ولكنه دول يستهدفها قراصنة الاقتصاد، للسيطرة الكاملة عليها، وتوجيهها اقتصاديا وسياسيا إلى حالة من التبعية، ولم يعد الجزاء رطل لحم، ولكن الهدف الوصول بالمقترض إلى حالة الإغراق في الديون والعجز عن السداد، وإن تعثرت أهداف السيطرة يتراجع قراصنة الاقتصاد ويحل مكانهم الثعالب من رجال العمليات القذرة للقتل والاغتيال، وإن لم تفلح الثعالب تقدمت الجيوش، وكل ذلك في إطار نظام "الكوربوقراط" أو حكم المؤسسات الصناعية والبنوك. جون بيركنز واحد من هؤلاء القراصنة، سجل في كتابه "اعترافات قرصان اقتصادي"، ممارسات نخبة رجال الأعمال في الولاياتالمتحدة لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر عليها "الكوربوقراطية" أي حكم منظومة الشركات الكبرى الأمريكية. يروي بيركنز على لسان مدربته أن كيرميت روزفلت وضع المثل لمهمة القرصان الاقتصادي، وأيضا نبه بالمحظور. كيرميت روزفلت هو رجل المخابرات الأمريكية الذي أدار الصراع في مواجهة رئيس وزراء إيران محمد مصدق (1951) بعد أن قام الأخير بتأميم البترول الإيراني وتضررت شركة بريتش بتروليوم، ولجأت بريطانيا إلى أمريكا حليف الحرب العالمية لتعينها، واستبعدت أمريكا خيار الحرب، ولكنها أرسلت روزفلت إلى إيران، ونجح في استخدام سلاح المال والتهديد والعمل السري ألمخابراتي في حشد الشارع ضد مصدق، والقيام بمظاهرات أدت إلى سقوط مصدق، ولكن المخاطرة أن روزفلت كان يحمل في ذاته الخطر علي مهمته، لكونه أحد رجال المخابرات المركزية الأمريكية. نجح روزفلت في تنظيم وإدارة أول عملية أمريكية أسقطت نظام حكومة اجنبية، ولكن كما يقول بيركنز، كان من الضروري ايجاد طريقة لتحقيق الهدف دون الإشارة إلى واشنطن، وهنا ظهرت وظيفة القرصان الاقتصادي الذي يتقاضى مرتبه من القطاع الخاص، شركة مستقلة عن الحكومة الأمريكية، وفي هذه الحالة لن يمثل مشكلة أن اكتشف أمره، حيث ستفسر أفعاله علي أنها صراع المنافسة بين شركات وليس لصالح الدولة، فضلا عن أن نشاطه سيكون بعيدا عن مسائلة الكونغرس. يحدد بيركنز دوره في استخدام المنظمات المالية الدولية صندوق النقد والبنك الدولي وبرنامج المعونة الأمريكية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأمريكية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، فهو يقوم بإعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط قيام الشركات الأمريكية بتنفيذ هذه المشروعات، فلا تخرج الأموال من الولاياتالمتحدة، ويبقي علي الدولة المتلقية سداد أصل القرض والفوائد. ويؤكد بيركنز أن مقياس نجاح الخبير يتناسب طرديا مع حجم القرض بحيث يجبر المدين علي التعثر بعد بضع سنوات، وعندئذ تفرض شروط الدائن التي تتنوع مثل الموافقة علي تصويت في الأممالمتحدة أو السيطرة علي موارد معينة في البلد المدين أو قبول تواجد عسكري به، وتبقي الدول النامية بعد ذلك كله مدينة بالأموال. ويكشف بيركنز خداع ما يسمى بالتقدم الاقتصادي الذي يقاس علي الناتج الإجمالي القومي والذي يمكن أن يتركز في أيدي نخبة داخل الدولة المقترضة، ويؤدي ذلك إلى تكوين مجموعة من العائلات الثرية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي تشكل امتدادا للنخبة الأمريكية من خلال اعتناق نفس أفكار ومبادئ وأهداف النخبة الأمريكية. ويرصد بيركنز أن حجم مديونية العالم الثالث وصلت إلى 2.5 تريليون دولار وأن خدمة هذه الديون بلغت 350 مليار دولار سنويا عام 2004 وهو رقم يفوق ما تنفقه كل دول العالم الثالث علي الصحة والتعليم ويمثل 20 ضعفا لما تقدمه الدول المتقدمة من مساعدات خارجية. ويكشف بيركنز عن قيامهم بتطويع اللغة لتغليف استراتيجيتهم في النهب الاقتصادي، وذلك باستخدام مفاهيم مثل "الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك"، وهو ما يؤدي إلى خصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء. ويعرض بيركنز لتجاوز إشكالية أصحاب المصالح الأمريكية مع المواطن الأمريكي بطريق غسيل المخ أو ما أطلق عليه "هندسة الموافقة"، بحيث يصبح حديث المواطن الأمريكي متمشيا تماما مع مفاهيم النخبة، وبحيث يساق الشعب بشكل دائم إلى إدراك أن الحرب لم تنته وأن بلاده تحارب من أجل قضية نبيلة، ويعرض استخدام ريجان تعبير "إمبراطورية الشر" وبوش تعبير "محور الشر"، للتأثير بألفاظ ذات مسحة دينية. وعلى المستوى الخارجي تندرج السياسة الأمريكية تحت مبدأ الاحتواء، حيث يتكامل الداخل والخارج في خدمة الكوربوقراط. ويقول بيركنز إن مهمته وأمثاله الترويج لهذا النظام الذي يمثل منظومة الشركات والبنوك والحكومات، فإذا فشلوا، يبدأ الثعالب في تكملة الطريق، وهم نوع مؤذ من رجال العمليات القذرة، أما إذا فشل هؤلاء فهنا تتدخل الجيوش. لم يترك الرجل الموضوع لمجرد الحديث الروائي بل ربطه بوقائع دارت في جواتيمالا وبنما والإكوادور والعراق وفنزويلا وإندونيسيا وكولومبيا، ولعله يجب العودة مرة أخرى للحديث عن الكتاب وما يتضمنه، ولكن قصة استرداد فوائض النفط من المملكة العربية السعودية تبدوا الغرابة فيها في فصل يطلق علية المملكة العربية السعودية وعمليات غسيل الأموال، وكيف بدأ وضع مخططاته للقرصنة علي عوائد النفط من صورة فوتوغرافية عرضها عليه أحد دبلوماسي المملكة عام 1974 للرياض العاصمة، وفيها قطيع من الأغنام يرعي بين أكوام القمامة خارج مبني حكومي، وأن الدبلوماسي شرح له أنها وسيلة التخلص من القمامة، ويعلق بيركنز: "أغنام في عاصمة أكبر مملكة بترول في العالم. بدا لي أمرا لا يصدق"، ولكن هذه الصورة كانت منطلق بيركنز فيما بعد ليضع خطة التطوير للمملكة والتي نجحت بها الشركات الأمريكية في استعادة ما دفع للنفط خاصة بعد أزمة 1973 عندما زادت الأسعار بطريقة خيالية. هكذا تضع أمريكا خطط السيطرة والاستحواذ، ونحن نقتتل حول مباراة كرة قدم. من ينسى دم أبناءه، ويترك قاتليهم دون قصاص، لن يعي دلالات ذلك لدى القوى الخارجية، بل كيف يستوعب حقيقة القرصنة الاقتصادية، ولعله سيقبل بالقرصنة الاقتصادية بديلا عن العمليات القذرة للثعالب أو تدخل الجيوش، ولكن في كافة الأحوال فإن مثل هذه الأنظمة لا تعبر عن شعوبها أو مصالح تلك الشعوب، هم صرعي امتلاك السلطة، حتى وأن كانت هناك في مصر ثورة. ما يبدو أننا نعرفه حتى بالرؤية لا يتجاوز قمة جبل الجليد، وليس هناك من سبيل لتجاوز الخطر، ما نراه وما لا نراه، من دون امتلاك قدرة تحديد الإمكانات، وتجاوز أخدود الجهل الذي فتت العقل، وامتلاك أدوات العصر، وعدم ادعاء أحد لامتلاك الحقيقة المطلقة، نحن نخوض صراع البقاء، والكوربوقراط يرون أن مصر هي الجائزة الكبرى، ونعاني من ثلاث مخاطر محدقة بنا، النفط الذي تحول من نعمة إلى لعنة، والموقع الذي يمثل مركز الحركة بين الشرق والغرب، وإسرائيل التي تمثل الخطر المباشر علي المجتمع العربي، فهل نظل نضع أصابعنا في أعيننا، أم أننا سنغيظ وجهنا ونقطع أنفنا. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية