رحلة مليئة بالمفاجآت على "طريق الموت" طريق الصعيد، فحدث ولا حرج، قل فيها ما شئت.. فهى طرق إذا نجوت فيها من الحوادث فلن تنجو من قطاع الطرق والعصابات المسلحة، وإذا نجوت من العصابات المسلحة لن تنجو سيارتك من المطبات العشوائية التى تصطاد ضحاياها من السيارات بالعشرات يوميا، وتحولها إلى خردة؛ يبدو أن الموت كتب على أهالى الصعيد سواء بتمزيق أجسادهم تحت عجلات القطارات التى من الأساس لا تعمل إلا بنصف قوتها؛ أو باغتيال أحلامهم فى حوادث السيارات التى يديرها مافيا تستغل الركاب، وهناك فى كل موقف مافيا لتحديد سعر الأجرة، بات الصعايدة فى حيرة من أمرهم لا يجدون حلا لوقف نزيف الدماء الذى يسيل منهم على الطرقات فإن هربوا من حوادث السيارات واستقلوا القطارات وجدوا الموت يتربص بهم، وإن قرروا استقلال السيارات وجدوها كالنعوش الطائرة التى تقودهم نحو الموت، فكل الطرق صارت سيئة السمعة وتودى بنا إلى الآخرة، وقد تندهش إذا قلت لك إن جميع الطرق فى مصر وبلا استثناء بجدارة نجحت فى أن تتجاوز النقاط السوداء لمعيار السلامة والصلاحية، ويكفى أن تعرف وحسب التقارير الدولية أن أكثر من 50 ضحية لكل 100 كيلو متر تقطعها السيارات تسقط فى مصر بسبب حوادث الطرق، هذا مقارنة بشخص واحد فى الولاياتالمتحدة وأقل من شخص فى بريطانيا. تكالبت المشكلات والمآسى على أهل الصعيد منذ زمن بعيد، ليجدوا أنفسهم فى مواجهة "الموت" من خلال شبكة الطرق المتهالكة سواء الرئيسية أو الفرعية فى ظل التوقف الجزئى لحركة قطارات الصعيد والتى أجبرتهم على استقلال النعوش الطائرة "سيارات الميكروباص" وكانت الطامة الكبرى بعد الثورة قيام الأهالى بعمل المطبات العشوائية التى باتت تحصد أرواح الضحايا يوميا فى ظل اختفاء العلامات الإرشادية، هذا فضلا عن مركبات التوك توك وعربات الكارو التى تفجر أزمة حقيقية على الطرق السريعة والفرعية. بدأت الرحلة من بيتى بمركز أبو تشت شمال محافظة قنا متجهاً إلى العاصمة القاهرة، حيث مقر عملى، كنت أرغب فى الحصول على تذكرة قطار القاهرة ولكنى لم أستطع توفير تذكرة نظرا لقلة القطارات التى تعمل ولضيق الوقت؛ فقررت أن أستقل سيارة ميكروباص من الميكروباصات التى تعمل بين خط الصعيد – القاهرة؛ القصة هنا ليست قصة مافيا الميكروباصات التى تستغل الظروف وتجبرك على دفع الأجرة التى تحددها هى بدون معايير لذلك، حيث أن كل سائق يحدد أجرته كما يشاء؛ إنما الموضوع هو أنه خرجنا من مدينتى أبو تشت من ناحية مركز دار السلام بمحافظة سوهاج أى ناحية الشرق، وبعد سير نحو ساعة وجدنا مشاجرة بين عائلتين بالأسلحة وانطلق وابل من الأعيرة النارية بشكل عشوائى، فبدأ الخوف والذعر يدب فى نفوس الركاب، وإثر ذلك بحثنا عن طريق آخر نسير فيه غير هذا الطريق، فوجدنا طريقا آخر وسرنا فيه، والطريق من مدينتى أبو تشت حتى سوهاج مليئة بالمفاجآت، فقد تتوقف فجأة أمام طفل لم يتجاوز عمره سبع سنوات يعبر الطريق مسرعاً إلى الناحية المقابلة، ليركب إحدى سيارات الأقاليم التى وقفت فى عرض الطريق لالتقاط الركاب، وقد تجد قطيعاً من الماشية والأبقار يقطع الطريق تاركا خلفه زوبعة من التراب تجبرك على الانتظار لحين زوالها خوفاً من المقبل فى الاتجاه المعاكس، الخطورة على طريق الصعيد الزراعى تزداد بالنسبة للمتجهين إلى القاهرة، فأى مفاجأة تلقى بك مباشرة فى ترعة الإبراهيمية، التى تآكل الجزء الأكبر من سياجها الحديدى ولم يتم استبداله أو ترميمه، وقد تفاجأ بقطار يقطع الطريق أمامك، دون أن تجد إشارة ضوئية أو حاجزاً يمنع السيارات من المرور أو شرطياً يحذر المارة، فلكل مدخل قرية حادثة، ولكل مطب ضحاياه، ومياه ترعة الإبراهيمية والحقول الممتدة على جانبى الطريق تشهد على الأعداد المهولة لضحايا «طريق الموت». بوصولنا محافظة سوهاج نبدأ مرحلة أخرى من الطريق وهى مرحلة الطريق الصحراوى؛ حيث اختار السائق الطريق الصحراوى، الذى كان رغم تحسن حالته فى كثير من الأحيان أكثر رعباً وخطورة من الزراعى، الوصلات المؤدية إلى هذا الطريق غير ممهدة تماماً، ولا يوجد لها أى لافتات أو أعمدة إنارة، ومن السهل جداً أن تضل طريقك فى قلب الصحراء بحثاً عن الطريق الرئيسى، كما أن هذه المنطقة لا توجد بها شبكات تقوية للمحمول، حاولنا استخدام الهواتف فكانت جميعها خارج التغطية، أعمدة الإنارة صدئة وملقاة فى قلب الطريق، الأجزاء المضاءة تدل على الاقتراب من إحدى اللجان على الطريق، سوى ذلك أنت مجبر على الاعتماد على أضواء سيارتك، فأى حادثة تعنى الوفاة مباشرة. وقفنا بكافيتريا بغرب أسيوط حيث جلسنا نصف ساعة تقريبا للاستراحة، والسائق هو من يختار الكافيتريا، لأنه على حد قوله متعود عليها، لذلك علينا إلا نفكر فى الذهاب للحمام قبل ذلك ؛ وأيضا على الركاب أن يحضروا معهم طعام وشراب لطول الطريق بدون توقف، ثم سرنا من أسيوط إلى المنيا إلى بنى سويف إلى أن وصلنا إلى الكريمات وهنا كان الموت ينتظرنا، حيث وجدنا فى هذه المنطقة ما يشبه لعبة العسكر والحرامية أو القط والفار، حيث وجدنا قطاع طرق وعصابات وتجار مخدرات وعلى المقابل قوات الأمن التى تطاردهم، حيث الطريق ضيق شاهدنا سيارة جيب شروكى وأخرى تويوتا دبل كابينة تابعين للعصابة ومعهم أسلحة آلية؛ تطاردهم قوات الأمن بسيارة ميكروباص شرطية وسيارة (بوكس شرطة) ومدرعة. كانت سيارتنا تسير بنفس سرعة سيارات الشرطة والعصابة تقريبا وبدات الاشتباكات بالأعيرة النارية بشكل عشوائى من هنا وهناك، كنت أجلس بالمقعد الأمامى من السيارة ناحية الاشتباكات فجأة وبدون مقدمات وجدت نفسى فى حالة ذهول لا اعرف ماذا يحدث ؛ وبدأت صرخات الأطفال والسيدات تعلو وتعلو، فقط لم يكن أمامى سوى شىء واحد.. وهو أن أردد "لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله". كتب الله لنا النجاة والبقاء على قيد الحياة واستطاع السائق بمهارة أن يزيد من سرعة السيارة رغم الحمولة الثقيلة بالميكروباص من ركاب وشنط كثيرة، وتقدمنا أمام سيارة العصابة والشرطة إلا أن المطاردة مستمرة والموقف جعلنى لا أعرف عدد القتلى والإصابات ولكن فى النهاية استطاعت قوات الأمن أن تسيطر على الموقف بعد وابل من الأعيرة النارية. فى النهاية ليس الغرض من القصة المتعة أو الإثارة أو التسلية، إنما الغرض منها أن نوجه نداء للاهتمام بالصعيد وبالمواطن الصعيدى، نريد نظرة للطرق التى ينقصها وحدات شرطية وإسعاف وكل الخدمات لتوفير حياة آدمية آمنة.. وهذا هو أبسط حق من حقوق المواطنة.. كلامى انتهى ولكن أملى لن ينتهى ولن يتوقف.