الطبيعة كانت مصدر إلهام للفنانين منذ أقدم العصور حتى اليوم، بل كانت ملهمة لعلماء الجمال، لوضع أسس القيم الجمالية العليا ومعاييرها التى يقاس عليها كل جميل، بدءا من المفردة الواحدة من عناصر الطبيعة كالوردة والشجرة والنخلة والطائر والحيوان وجسم الإنسان، وحتى معالم الجغرافيا والجماد، مرورا بتحقيق الانسجام والتكامل بين عناصرها فى وحدة جمالية، وانتهاء إلى استخلاص المعانى المطلقة للوحدة الكلية للوجود، حتى نصل إلى قيم النماء والخير والسلام والمحبة، ثم نتجاوز المعانى الأرضية إلى «ما وراء الطبيعة». على مدار القرن الماضى تغيرت مفاهيم الجمال بالنسبة للمدارس الفنية، واتجهت إلى تعمد تشويه الطبيعة، أو إلى تعمد تحريف ملامحها المتعارف عليها، أو إلى تفكيك عناصرها وإعادة تركيبها بمنطق فنى يخالف المنطق البصرى المعتاد، كل ذلك من أجل خلق «طبيعة فنية» موازية، تأكيدا لنزعة التحرر والابتكار لدى الفنان، ولمعنى الحداثة برفض المحاكاة للطبيعة والواقع، إثباتا لتفرد نظرته الذاتية الخلاقة. الفنان جلال الدين الحسينى، الذى يقيم الآن معرضا للوحاته بمتحف محمود مختار بالجزيرة تحت عنوان «50 سنة فن»، يقدم لنا خبرته العريضة والعميقة على مدى نصف قرن فى التعامل الجمالى مع الطبيعة، من خلال 60 لوحة أغلبها بالألوان المائية، تبنى فيها الاتجاه الأول، القائم على احترام الطبيعة المرئية، بمناظرها الخلابة، وزهورها المتفتحة، وملامحها الإنسانية، وتكويناتها الجيولوجية، وعناصرها الحيوية من أنهار ونخيل وبيوت، وجبال وصخور، وحيوانات وطيور.. لم يحاول الابتعاد كثيرا عن نسبتها الطبيعية، وعن قواعد المنظور الهندسى ثلاثى الأبعاد وعن ألوانها المعروفة وأشكالها المعتادة، بل احترم مظاهرها الفطرية التى تكونت فوق الأرض منذ بدء الخليقة ومع ذلك، فلا نستطيع أن نعتبره فنانا تسجيليا للمناظر والمظاهر الطبيعية، بل نراه فى كل لوحة يوحى إلينا بأنه يخفف من ثقل كتلتها الطيفية أو الصخرية أو الجمادية حتى تصبح أقرب إلى التحليق والطيران محفوفة بنوع من الغموض الحالم ومن الشاعرية الرومانسية. نحن نرى النخلة التى نعرفها فى الواقع، لكنها فى ارتباطها بنخلة أخرى أو بمجموعة من النخيل تبدو كأسرة متماسكة متحابة يحنو بعضها على بعض ونراها وهى تبلغ من وسط أكمة من الأشجار على شاطئ النهر كأنما تنبثق منها، وتتصاعد إلى السماء بتيجان الجريد المتمايلة فى حركة ناعمة، ونرى الوردة البيضاء أو الصفراء وسط باقة زهور وكأنها تومض بضوء ربانى ينبع من داخلها لحظة التفتح مع أول ضوء للنهار، تنشر وريقاتها بإشعاع غامض ينفذ إلى روح المشاهد فيحس بأنه يسمع حفيفها السرى الفرح بأشعة الشمس الوليدة ونى جبال سيناء الجهمة بصلابتها وقسوتها الجيولوجية وقد كساها فيضان النور الملون بشتى الألوان الصباحية الهادئة، وانساب إلى الوديان رقراقا ومتلمعا، فوق العشب وأغصان الشجيرات الجافة المتناثرة، وهكذا تتحول الطبيعة الخرساء فى كل لوحة إلى حالة تعبيرية تتغنى بعظمة الخالق. الفنان جلال الحسينى الذى دخل عالم الرسم من بوابة الهواية كخريج قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة وكممارس للعمل الهندسى على مدى نصف قرن ما كان ليصل إلى هذه الحالات الصوفية إلا بأسلوبه الانطباعى التأثيرى بالألوان المائية الشفافة ومن خلال لمساته الخاطفة وهى تلامس سطوح الورق بخفة ورشاقة وكأنها تقبلها أو تهدهدها وتنساب فى ليونة وعذوبة بين الوجوه المختلفة لعناصر الطبيعة متجنبة رصد التفاصيل الدقيقة، بل تصبح أقرب إلى بقعة لونية وموجات ضبابية متداخلة أقرب إلى الحلم، غير أنه لم يقتصر على المناظر والتكوينات الطبيعية أو تشكيلات الطبيعة الصامتة بل قدم فى مراحل سابقة أعمالا تعبيرية ورمزية حول المصير الإنسانى فى مواجهة الصراعات والحروب، وقد بدا الإنسان شاهدا على الأحداث أو تائها وسط جماعات المشردين، وهى تحاول أن تتماسك فى مواجهة الشتات.