عامان على رحيل واحد من أنبل رموز مصر، الذين وضعوا بصمة واضحة فى تاريخ الأمة المصرية، بمسلميها ومسيحييها، رجل كرس حياته لنصرة الحق والوطن ومعانى الإنسانية بين المصريين، إنه البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، وهو البابا رقم 117 للكنيسة المصرية. ولعلنا فى ذكراه لم نكن لننسى مواقفه الوطنية والإنسانية طوال حياته، التى التف حولها كل إنسان محب لأرضه ووطنه وكرامته، صفحات خالدة فى التاريخ المصرى سطرتها مواقف ومشاعر وحكمة البابا شنودة ترجمت فى جوهرها معانى الوطن والإنسانية والسلام والمحبة فى الأرض. فربما كثيرون لا يعرفون نضال هذا الرجل فى الموقف الذى اتخذه فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حينما طلب الأخير من البابا إرسال وفود مسيحية لزيارة القدس فى إطار جهود السادات لعقد معاهدة كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل. ولكن البابا رفض إرسال أى وفود إلى بيت المقدس إلا إذا سُمح لمسلمى الأمة العربية بدخول الأقصى، حيث قال: " أرجوكم أبلغوا الرئيس أننى لا أرى الوقت مناسباً لتنفيذ اقتراحه"، ليأتى رد البابا شنودة كالصاعقة على السادات، الذى عزله من منصبه فى خطاب شهير، ونفاه إلى دير الأنبا بشوى وحدد إقامته عقاباً له على وطنيته وغيرته على كرامة الأمة العربية، ورفضه المشاركة فى التطبيع مع الكيان الصهيونى حديث العهد وقتها. وفى بداية حكم مبارك كانت العلاقة متوترة أيضًا وذلك بسبب الخلاف الذى حدث بين السادات والبابا، حيث كان مبارك فى ذلك الوقت نائباً للسادات، وتعود الواقعة عندما طلب الرئيس السادات من مبارك أن يجلس مع البابا لحل الأزمة، ولكن البابا صمم على رأيه فما كان من مبارك سوى نقل رد البابا إلى السادات ليقوم الرئيس الراحل بسحب القرار الجمهورى باعتماد نتيجة انتخاب البابا التى صدرت عقب اختياره فى 14 نوفمبر 1971 وأبعد البابا إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون. وعندما تولى مبارك الحكم لم ينس له هذا الموقف وتركه مستبعداً فى دير الأنبا بشوى لمدة 4 سنوات كاملة، رغم إفراجه عن كل المعتقلين السياسيين بعد 40 يوما من توليه الحكم بمن فيهم مرشد الإخوان المسلمين، ونجد طوال هذه المدة مدى رقى البابا فى التعامل مع هذه الإهانة بالحب والسلام والمثابرة، من أجل المصلحة العليا للوطن، وهو الأمر الذى كان بمثابة الرد الوحيد على جميع محاولات الفتن الطائفية طوال 30 عاماً فى عهد مبارك، بل ومن قبل ذلك بداية من حرق كنيسة الخانكة بالقليوبية عام 1971 مروراً بأحداث الزاوية الحمراء ونجع حمادى إلى القديسين وأطفيح وغيرها من حوادث الفتن الطائفية التى لم تستهدف الأقباط بقدر استهدافها جسد الوطن فعندما كان الأقباط يقتلون كان البابا شنودة دائما يرد على الدم بالصلاة، وبرسائل المحبة والسلام، الأمر الذى كان يفسره بعض شباب الكنيسة المتحمس أحيانا على أنه تخاذل ولكنهم لم يدركوا أن حمائم السلام أقوى من الرصاص، وإن هزيمة التطرف تبدأ بانتصار الإنسانية بداخلنا، فهذا الرجل لم يكن قط أباً روحياً للأقباط فقط أو ممثلاً عنهم فحسب، بل كان ممثلاً عن الشخصية الوطنية المصرية فى الأساس التى تتخذ من الوطن عقيدة ومن التسامح فريضة ومن السلام طريقاً.. طريقاً واحدا ووحيداً للعيش فى كنف أرض مصر إلى آبد الأبدين. وأخيراً أتوج مقالى هذا بمقولة للبابا شنودة تقول " كل فضيلة خالية من الحب لا تحسب فضيلة" تحية إلى رجل (السلام - المحبة - الوطن).