تعرض «البرنامج» لحالة من التشويش، لا بأس فهذا مجرد «تشويش باسم»، اعتبره «الجيش الإلكترونى» مجرد هزار و«قرصة ودن»، هناك إذن «تشويش مرعب» لا يدخل تحت بند الهزار، وهو ضمن حديثنا بالمصادفة وحسن الحظ «عادة المتآمرين أمثالى هم الذين يدبرون المصادفات وحسن الحظ». قد يتصور قارئ ذكى أننى أستغل انشغال الجمهور والإعلام بموضوع التشويش، للتشويش على من ينتظرون إجابتى عن السؤال الصعب الذى طرحته الأسبوع الماضى فى قضية تسطيح الإعلام وقتل المعنى وتنميط كتلة الجمهور، وعن حقيقة الشركاء والممولين والمتواطئين والمستفيدين، بل وعن مدى تورط الجمهور نفسه فى هذه الجريمة «إذا كانت جريمة». لا بأس أيضا، فالتشويش هو عنوان المرحلة «يا عزيزى كلنا كونفيوزد»، والمضحك أن الساخر باسم يوسف «الذى يمارس فى برنامجه نوعا من التشويش على برامج آخرين» يعتبر أن التشويش «حركة بلدى قوى الصراحة» كما غرد على تويتر، لكن فى الواقع التشويش حركة عصرية وعالمية وتكنولوجية متقدمة جدا لا يقدر عليها إلا الأرقى والأقوى والأعلم، فالتشويش الذى أزعج باسم وجمهوره ومنتجه ومحطته لم يزعجهم بهذا الشكل عندما تعرض له الوطن كله «ولازال» منذ سنوات وعقود طويلة حذر فيها كتاب ومفكرون صراحة من اختراق مخيف يهز صورتنا وينمط حياتنا ويحنط عقلنا، وأكتفى بالإشارة هنا إلى كتاب «العرب والنموذج الأمريكى» للدكتور فؤاد زكريا، و«الوعى الزائف» للمناضل اليسارى محمود أمين العالم!، والأهم من هذه الكتب هى النتيجة التى وصلنا إليها كمجتمع مشوش تماما «لا أحد يسمعك جيدا، لا أحد يراك جيدا» فالصورة موجودة لكنها فسيفساء بلا معنى، والصوت موجود لكنه زئير وصفير وكلمات مبتورة تؤدى إلى التوتر لا إلى الفهم. أليس هذا حالك وحالى وحالها الآن؟ تصفح مثلا إعلامنا، وتأمل حوارنا على مواقع التواصل الاجتماعى حول قضية تشويش باسم ستجد أن المشكلة مجرد خناقة بين طرفين تحت عنوان «لماذا لا يموت أولاد الوس..»، وكل طرف يقصد الآخر، وعلى مستوى المعلومات تتحمل التشويش مجموعة قراصنة يطلقون على أنفسهم «الجيش الإلكترونى»، أما مدير صفحتهم على «الفيس» فيسمى نفسه «رمز العدالة»، ولا يعلن كراهيته لباسم بل يعتبر نفسه من معجبيه، بس «بيقرص ودنه علشان يخفف من الإباحية والألفاظ الخارجة». إنها الأخلاق يا أصدقائى، أروع اختراع قدمته البشرية للخلط بين هدف خفى وشعار معلن «تشويش آخر غالبا ما يمر علينا بسهولة»، والمهم كما يقول رمز العدالة «أن تكون الرسالة وصلت، وبعدين كل شيخ وليه طريقته وإحنا دى طريقتنا فى الهزار». الأجمل فى كلام «رمز العدالة» هو توضيحه أن «اللى حصل مع باسم مش تشويش لأن التشويش بيكون بأجهزة ترسل إشارة على نفس التردد، وإحنا شباب لا نملك مثل هذه التكنولوجيا التى تملكها أجهزة سيادية، اللى حصل هو إننا ضغطنا على سيرفر البث لمدة عشر دقائق من سيرفرات سريعة فهنج شوية». عشر دقائق من الضغط أربكت سيرفر mbc مصر، فماذا فعلت إذن سنوات من الضغظ على مصر نفسها، من جيش أكثر وحشية يسمى نفسه أيضا «رمز العدالة»؟ السؤال يضعنى مباشرة فى عمق قضية التشويش، ليس بالطريقة القديمة التى أراد أشعب أن يصرف بها الصبية الذين يسخرون منه فأخبرهم «كذبا طبعا» أن هناك وليمة فى بيت فلان، فلما جروا ناحية البيت، كان «المشهد» كافيا لإقناعه بأن يصدق الكذبة التى اخترعها بنفسه للتشويش، وليس أيضا بطريقة جوبلز التى تتلخص فى تضخيم أسلوب أشعب، حيث يحبذ التكرار «اكذب.. اكذب»، والمبالغة «كلما كانت الكذبة كبيرة كلما أمكن تصديقها»، لكننى مهتم الآن بالتشويش كفلسفة للعصر وليس كوسيلة فقط، فالذى يحدثك عن انهيار الحقيقة وموت الواقع الآن، ليس الكاذب والمضلل فقط، ولكن الفيلسوف والعالم، ووسائل الإعلام نفسها! ما هذا الغموض والتشوش، وما علاقته بموضوعنا؟ هذا هو موضوعنا للأسف الشديد، فالإعلام المعاصر مثل حسين فهمى فى فيلم «العار» صار يتاجر فى المخدرات والتغييب، لأن الحقيقة والعدالة والذى منه لم تعد فاعلة ولا موجودة من الأساس، لذلك بكل جرأة يمكننى أن أقول لك: لا تصدق باسم يوسف ولا أمانى الخياط، فهما مجرد بائعين يتنافسان عليك كزبون لا أكثر. هل يبدو كلامى فجا ومحبطا؟ إذن هل يرضيكم أن أقتطف من كلام خبراء وأساتذة الإعلام فى العالم؟. هل قرأتم هجائية هربرت شيللر «أستاذ الإعلام السابق بجامعة كاليفورنيا» التى نشرها منذ عقود تحت عنوان «مديرو العقول» وترجمت إلى العربية بعنوان «المتلاعبون بالعقول»؟، هل طالعتم دراسات عالم الاجتماع الفرنسى بيير بوردو عن التليفزيون كأداة لمسخ العقل، وتهديد الحياة، والنهج الديمقراطى؟ حيث لا يسمح نمط الإخبار بالتأنى والعقل، لهاث متواصل، والجديد يأكل القديم بدون وقت للتفكير «فاست سينك - فاست كول». وللغاضبين المحتملين من وصفى للإعلام بأنه تجارة مخدرات، أضع وصفى المهذب أمام وصف بوردو للتليفزيون بأنه «يشبه أفلام البورنو» حيث الإغراء بلا واقع حقيقى، كما يقول إنه تحول من نافذة على العالم إلى مجرد «مرآة نرجسية لحب الذات» فهو يبيع للجمهور السلع التى يحبها وليس الحقيقة الواقعية، لذلك زادت اتصالات الجمهور لتوريطه فى المشاركة، وكل من يرغب فى الظهور عليه أن يقدم تنازلات، فلا ظهور مجانيا على الشاشة، وكل شىء يخضع لرقابة خفية من أول فرض موضوع النقاش، وخط سير الحوار، والاتصالات، والتحكم فى الحيز الزمنى لكل متحدث، هذا بالإضافة إلى الرقابة الاقتصادية للملاك والمعلنين، والمحاكاة والتكرار وفبركة السبق وصناعة الفزع والأكاذيب لجذب الزبائن، ويحذر بوردو من أن العالم صار حبيسا داخل هذا الصندوق، وأى شىء لا يظهر فى التليفزيون يبدو للزبائن المسحورين أقل أهمية وأقل اقعية. الأمر يبدو لى، كما شرحه كلود ليفى شتراوس فى دراساته عن إيمان المجتمعات البدائية بالأساطير، دوران مغلق نمارسه وكأننا مسحورون، وثمة من يقول إن التوسع الإعلامى، هو وسيلة مضمونة لتغييب الواقع الفعلى وتخفيف حدته، ويحذر هؤلاء من النضال عبر الإعلام، وتكثيف حملات التضامن الإلكترونى، لأن هذا التعميم للصورة دائما يقابله قصور فى الموضوع الذى يعبر عنه، فالإعلام المفرط يهيئ الناس لواقع غير موجود، وبالتالى يسهل سقوط الموضوع المبالغ فيه، لكن الإعلام نفسه يتلقف ذلك ويقدم موضوعا جديدا دون النظر للموضوع القديم، وهذه تقنية الأخبار التى يأكل فيها الجديد القديم، عكس القصيدة والرواية واللوحة والموضوع الثقافى، وهذا عامل من عوامل تفسير سقوط النجوم وتآكل الأبطال الجدد بسرعة، لأنهم مجرد مادة استهلاكية للإعلام، يستخدمها حسب عمرها الافتراضى، ثم يلقيها جانبا دون اعتبار للمعنى، ويشد منديلا آخر من صندوق «الكلينيكس»، على عكس العلاقة القديمة مع المنديل القماش الذى كتب عنه عالم الاجتماع عبدالباسط عبدالمعطى منذ عقدين دراسة بديعة تحولت إلى مرثية للمنديل المحلاوى فى زمن الكلينيكس. والعلاقة القديمة التى أقصدها يمكن شرحها من خلال المثال الشائع الذى كان أساتذة الإعلام يخبرون فيه الدارسين أن شاشة التليفزيون زجاجية، ليس فقط ليشعر المتفرج أن لا شىء يفصله عن المذيع، ولكن حتى لا يستطيع المشاهد أن يمد يده ويلمس المذيع، أو يتفاعل معه، لأن ذلك سيؤدى إلى نوع من الصدمة، لأنه غير موجود معك، إنه فقط يلقنك، فأنت تسمعه وهو لا يسمعك، لذلك كانت الميديا «الوسيط» تتواضع وتحاول إخفاء نفسها وهى تقدم الواقع أو المعلومة، ولما تمكنت الميديا من جمهورها وصارت قوية، تبجحت ولم تعد بحاجة لمساعدة الواقع، لأنها صارت قادرة على تصنيعه، فأعلنت عن نفسها كميديا، بل تفاخرت وتجبرت وصارت «مالتى ميديا»، لأنها تعرف أنها أصبحت جزءا من حياتك لا تستطيع الاستغناء عنه، وحتى تكافئك وتشجعك على نسيان الانقلاب الذى دبرته ضدك، منحتك بعض المميزات، وفتحت مجال الاتصال بك كجمهور، فأصبح المذيع يسمعك كما تسمعه، وإن اختلفت الدرجة والمدة وعوامل التحكم، ولكن هذه الحيلة رغم ضعف تأثيرها كانت كافية لتوريط الجمهور فى حادث قتل المعنى، وهو لمن تشوش، جزء من إجابة السؤال الذى بدأنا به، لكن الحديث عن التشوش وقتل المعنى لم ينته بعد، فهناك اتهام صريح للإعلان باعتباره الوريث الذى آلت إليه تركة «الإعلام»، فهذا الوحش ابتلع كل أشكال التعبير الأخرى، رغم أنه بلا عمق ولا مرجعية، ويصفه بوردو بأنه فورى، وجاهل متأنق متحزلق لا يعترف بوجود التاريخ، بل ويعتبر أن الإعلان هو نقطة الصفر فى مسطرة قياس المعنى، بحيث يمكن القول إن الإعلان الكامل هو إلغاء كامل لكل ما عداه، فهو أكبر انتصار حققته السطحية فى تاريخ البشرية، وليس المقصود طبعا الإعلان الصريح فى ذاته عن سلعة ما، ولكن المقصود أسلوب الإعلان نفسه، بما يتضمنه من إدعاءات مثل أن «باسم» حامى الحريات، و«رمز العدالة» حامى الأخلاق، و«سين» حامى البلاد، و«صاد» حامى الشريعة، وسافو يغسل أكثر بياضا. ناقشنا فى هذا المقال «قضية تشويش باسم» أما التشويش المرعب فنتعرف عليه فى المقال المقبل. لا سبيل إلى الهدوء إذا كان الضجيج فى أعماقك «مارك توين»