نقلاً عن اليومى.. تمثل الحياة الثرية لفنان الكاريكاتير صاروخان نموذجا مدهشا لمقولة جمال حمدان إن مصر فلتة الجغرافيا وعبقرية التاريخ، وأنها قادرة على استقبال الغرباء واحتضانهم بمودة، ثم امتصاصهم بمحبة ضمن نسيجها الاجتماعى العام ليعملوا ويبتكروا ويضيفوا إليها، فتزداد غنى وثراء.. وعبقرية! أما لماذا صاروخان تحديدا؟ فسأشرح لك حالا! الأرمنى المنبوذ فى الأول من يناير عام 1977 رحل عن عالمنا صاروخان، رسام الكاريكاتير الأول فى مؤسسة أخبار اليوم، بعد أن ملأ الصحافة المصرية برسومه البديعة وقفشاته الفنية الساخرة، حيث زينت لوحاته وشخوصه مجلات وصحف القاهرة منذ عام 1928 حتى رحيله، بالرغم من كونه هبط أرض مصر، وهو لا يعرف كلمة عربية واحدة! الصدفة هى التى ألقت به فى حضن مصر، والمجازر هى التى طردته من موطنه الأصلى، فقد ولد الطفل «ألكسندر هاكوب صاروخانيان» فى الأول من أكتوبر عام 1898 فى بلدة أردانوج التى تقع أقصى شمال تركيا فيما وراء القوقاز، وكانت فى ذلك الوقت تابعة للإمبراطورية الروسية كما يقول «هرانت كشيشيان» مؤلف الكتاب الخاص عن حياة صاروخان، والذى صدر عن جمعية القاهرة الخيرية الأرمنية سنة 1998. عشق الصبى الرسم، وكان بارعا فى التقاط ملامح الشخوص، وقد خفف من وقع اسمه ليصبح «صاروخان» بدلا من «صاروخانيان»، محاكيا فى ذلك خاله الذى احترف الأدب. لعلك تعلم أن الأرمن قد تعرضوا لمحن كثيرة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فتركيا نفسها أبادت ما يزيد عن مليون أرمنى عام 1915، وشردت نحو مليون آخرين كان يعيشون على أرضها، كان من ضمنهم أسرة صاروخان، الذى وجد نفسه بعد سلسلة من المآسى والفظائع هائما متشردا فى شوارع فينيا، حتى التقى المثقف والثرى المصرى عبدالقادر الشناوى الذى أعجب برسوم صاروخان، وكان الشناوى قد ذهب إلى فيينا لدراسة فنون الطباعة لأنه ينتوى تأسيس مطبعة فى مصر وإصدار صحيفة أو مجلة متكئا فى ذلك على الثروة الكبيرة التى سيرثها عن جده! ورشة بربريان لم يرث عبدالقادر شيئا، فقد استولى أحد أعمامه على ثروة الجد، وبرغم أنه اتفق فى فيينا مع صاروخان على كل شىء وأرسل له تذكرة السفر ومصروف الجيب، إلا أنه الفنان الأرمنى حين وصل إلى الإسكندرية فى 31 أغسطس 1924 لم يجد أحدا فى انتظاره فوجد صاروخان نفسه فى بلد غريب لا يعرف لغة أهله! بعد سلسلة من المفارقات السينمائية إذا جاز القول، التقى الرسام بعبدالقادر الشناوى الذى ساعده على الحصول على وظيفة مدرس رسم فى مدرسة «كالوسيدان» ببولاق، ثم اختفى من حياة صاروخان إلى الأبد! هنا تتجلى عبقرية مصر، وهنا أيضا يلوح الأثر الضخم لثورة 1919، إذ كان الأرمن يشكلون جالية ضخمة فى مصر، فرضت نفسها على الساحتين الاقتصادية والاجتماعية، فتعرف صاروخان على عدد كبير منهم، لكن أهمهم على الإطلاق هو الزنكوغرافى «أرام بربريان» الذى يقوم بإعداد كليشيهات أغلب الصحف والمجلات الصادرة بالقاهرة بجميع اللغات فى ورشته التى تقع بحى عابدين، فكانت هذه الورشة بمثابة ملتقى غير رسمى للصحفيين والرسامين وأصحاب دور النشر، وفى هذه الورشة تحديدا، وفى يوم حسن الطالع، التقى صاروخان بالصحفى اللامع محمد التابعى، وكان ما كان! آخر ساعة وأخبار اليوم نسيت أن أخبرك أن صاروخان تلقى دراسة الفنون لمدة عامين فى المعهد الجرافيكى ببروكسل قبل أن يأتى إلى القاهرة، فصقل موهبته وامتلك مهارات جديدة فى الرسم والتلوين، لذا بهرت لوحاته محمد التابعى الذى كان يرأس تحرير مجلة روز اليوسف فى ذلك الوقت، فاستعان بصاروخان ليرسم له وجوه الزعماء السياسيين، وبعض الرسوم الكاريكاتيرية ذات الطابع السياسى الساخر، وبالفعل تمتع صاروخان برؤية أول كاريكاتير له على غلاف روز اليوسف فى العدد الصادر فى 22 مايو 1928، وبعد أربع سنوات ابتكر شخصية «المصرى أفندى» بمعاونة محمد التابعى والسيدة روز اليوسف، وهى أول شخصية كاريكاتيرية تعبر عن المزاج الشعبى للمصريين فى الصحافة المصرية. حين هجر التابعى مجلة روز اليوسف إثر خلاف مع صاحبتها، اصطحب معه صاروخان ليؤسس مجلة آخر ساعة فى عام 1934، ولما باع المجلة عام 1946 لمؤسسة أخبار اليوم اشتراها الأخوان على ومصطفى أمين، فانتقل صاروخان للعمل فى أخبار اليوم حتى رحيله فى مطلع يناير سنة 1977! تميزت أعمال صاروخان فى مجملها برشاقة فى الأداء وخصوبة فى الخيال، فخطوطه واضحة.. محددة.. لينة.. مريحة للعين، علاوة على براعته فى اصطياد الملامح وتحويرها لتلائم موضوعه الفنى، وقد ترك لنا نحو عشرين ألف صورة كاريكاتيرية وكتابين فى الكاريكاتير السياسى هما «العام السياسى 1938»، وكتاب «هذه الحرب» عن الحرب العالمية الثانية صدر بالقاهرة عام 1945. أذكر أننى سألت مرة الفنان الرائد حسين بيكار عن صاروخان وخفة ظله، إذ كان بيكار يعمل فى أخبار اليوم منذ عام 1959، فقال لى ضاحكا: «أذكر أن مكتبى كان بجوار مكتبه، فلما يأتى يلقى علىَّ السلام قائلا.. صباح الخير يا بيكاربونات بيه! وكنت أتعجب كيف ربط هذا الرجل بين اسمى وجزء من عقار طبى يباع فى الصيدليات أو عند العطارين لعلاج آلام المعدة؟». ترى.. أرأيت كيف تجلت عبقرية مصر فى شخص صاروخان؟ إقرأ أيضا : "عمليات التعليم": خبراء مفرقعات لفحص مدارس شمال سيناء "الداخلية" : لاول مرة منذ عهد"فاروق" نفضح حقيقة الإخوان الارهابية الأندية تستعجل كمال درويش لإعلان موعد اجتماع حسم نسب البث لطيفة تعود بعد غياب 4 سنوات ب"أحلى حاجة فيا" وتتلقى إشادات الجمهور الإخوان تستقوى بالخارج.. فريق دفاع دولى يتقدم بشكوى فى المحكمة الجنائية الدولية ضد مصر.. ويعقد مؤتمرًا صحفيًا الاثنين المقبل للإعلان عن الإجراءات.. ووحيد عبد المجيد: تحركات الجماعة لا جدوى منها