منذ عدة أيام مات الكاتب الروائى توفيق عبد الرحمن عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عامًا. إلى هنا فالخبر عادى، رغم إن الموت مفجع فى كل حالاته. لكن غير العادى أنه مات مدهوساً، عمدًا، تحت عجلات ميكروباص! كان يسير بسيارته ككل الناس فى شارع أحمد عرابى، ففوجئ بالميكروباص يصدم سيارته من الخلف، وعندما نزل ل"معاتبة" السائق، فوجئ به يتعدى عليه بالسب والشتم كمعظم سائقى الميكروباص فأصر المثقف على استدعاء الشرطة، ووقف أمام الميكروباص بجسارة ليجبر السائق على البقاء حتى وصولها، لكن المفاجأة أن السائق أمر التبَّاع الذى يعمل معه بدهسه إن لم يتحرك من أمامها، فانصاع التبَّاع وأدار محرك السيارة مهددًا إياه بإخلاء الطريق، وحين لم يستجب، دهسه التبَّاعُ تحت عجلاتها! ولمن لا يعرف أقول إنه فى عام 2001، وبعد أن بلغ عامه السادس والستين أصدر توفيق عبد الرحمن روايته الأولى عن سلسلة "أصوات أدبية" التى تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بعنوان "قبل وبعد"، وقد أثارت الرواية جدلاً عنيفاً وقتها فيما عرف ب"أزمة الروايات الثلاث"، أدت الأزمة إلى إقالة رئيس الهيئة وبعض قياداتها من مناصبهم، خصوصاً أنها تلت أزمة أشد وطأة هى أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" التى أصدرتها هيئة قصور الثقافة أيضاً للروائى السورى حيدر حيدر، إذ صاحبها خروج مظاهرات من جامعة الأزهر، مصحوبة بخلافات حادة بين المثقفين وقادة الرأى حول قيمة الرواية ومحتوياتها وأبطالها.. إلخ. وبصرف النظر عن الخلاف الذى صاحب صدور "قبل وبعد"، وعما تناولته من أحداث وشخصيات ثقافية معروفة، فإن الرواية تعد عملاً إبداعياً جميلاً، لفت الانتباه بقوة إلى اسم توفيق عبد الرحمن، المثقف اليسارى الذى ظل قريبًا من المبدعين لفترات طويلة، يستمع إليهم ويقرأ لهم ويشاركهم فى لحظات إبداعهم، دون أن يمسك بالقلم ويحاول الكتابة إلا فى نهاية العمر كما أسلفت. هل يفيد فى هذه القصة المفجعة القول إن التبَّاع قال فى التحقيقات إنه لم يقصد دهس الرجل بل تهديده وتخويفه فقط؟ وهل يفيد كذلك القول إن السائق الآمر قد هرب بسيارته من مكان الجريمة.. وإنه لولا أن الأهالى طاردوا التباع ونجحوا فى الإمساك به لذهبت دماء الرجل سدى؟ ظنى أن التفاصيل ليست مهمة، لن تقدم ولن تؤخر، فالذى حدث قد حدث بالفعل، وهو مرشحٌ للحدوث فى المستقبل مرات ومرات، لأن "الحادث" على ثقله وكارثيته أكبر من السائق ومن التباع ومن المثقف القتيل نفسه! الحادث دليل دامغ على فوضوية الشارع المصرى وارتباكه وانفلاته، رغم التواجد الأمنى الكثيف الذى لا ترى مثيله فى أى مكان فى العالم، وهى مفارقة مضحكة مبكية، فبالرغم من وجود شرطى فى كل شبر فى القاهرة، بألوان مختلفة، فإنه وجودٌ بلا فائدة، أو هو معطِّلٌ ومعوِّقٌ، بل وخارقٌ للنظام العام بشكل علنى، إذا كان ثمة نظام أصلاً! فمن المألوف أن تجد شرطى المرور يعطل الإشارة ليمر ضابطٌ، أو أمين شرطة يجد أن من العيب أن يحترم قوانين المرور، وكثيراً ما تجد هؤلاء يعكسون الاتجاه أو يقودون بتهور معرضين حياة الناس للخطر، وهم يضمنون أن أحداً لن يجرؤ على مساءلتهم.. فى الدول التى زرتها لم أشاهد عساكر مرور عند الإشارات، لكنى وجدت التزاماً أكثر مما يوجد عندنا، الناس يلتزمون بالقانون ليس لأنهم يخافون من العسكرى، ولكن لأن القانون جدير بالاحترام. كان ممكنًا ألا يقتل التباع توفيق عبد الرحمن، يهدده كما ذكر فى أقواله إلى أن يرتدع ويترك الطريق له، لكن ذلك لم يكن ليغير من أمر همجيتنا شيئًا، فنحن أول من وضع الدساتير فى المنطقة، ونحن أكثر من يدبج القوانين المفسرة، ونحن آخر من يلتزم بها ويطبقها ويحترمها.. لم نكن فى حاجة إلى قوانين لننقذ توفيق عبد الرحمن، لكننا كنا وما نزال وسنظل نحتاج إلى ثقافة احترام الآخر والاعتراف بالخطأ، وقبل كل ذلك، نحتاج إلى النظام، ذلك الذى لا أظن أننا نملكه.