إن الناظر للأوضاع فى مصر بشكل مترو يرى أن أخلاق المصريين ضاعت منذ زمن، وأن المتمسك بأخلاقه "كالقابض على جمرة حرفيا" أو كالمؤمن بشكل سرى بدين جديد يخالف المعروف وسط جماعته "إنهم ينادون فى المدينة بدين جديد.. أسنترك دين آبائنا وأجدادنا؟؟".. أصبح الصدق والأمانة والاحترام تلك التعاليم الجليلة التى جاء بها كل الأنبياء لإنقاذ البشرية منذ فجرها المبكر، هى قوانين رجعية ومجرد آيات نحفظها لنسكبها سكبا فى صلاتنا، سواء فى المسجد أو الكنيسة.. لقد أفلح القائمون على خراب مصر.. نعم لهم عندى لقب هؤلاء الظلال الذين يتوارثون خرابها منذ الأزل وبدأوا يجنون ثمار "تعبهم المضنى الحقيقة" على مر أجيال.. أفلح هؤلاء أخيرا فى تغيير منظورنا الشامل للأمور.. وليس للثورة يد فى ما يحدث إلا أنها أظهرت المكبوت والمسكوت عنه والوجه القبيح لاعتناقاتنا المخزية منذ زمن بعيد. وإذا كان للأخلاق خط أحمر كنا نقف عنده من عدم الرد على الكبير، وإن اختلفنا معه إلا فى أضيق الحدود، أو "خاطر" عزيز علينا من الأهل والأصدقاء، أو الخوف من السلطة بسبب خبرات متناقلة متعاظمة من العقاب البدنى أو الإجراءات الجنائية التى تحكى حول موائد القهاوى ومع دخان الشيشة والمبالغات المتزايدة.. فقد اضمحل هذا الخيط الأحمر وأصبح الجميع فجأة ليس فقط محلل سياسى وإنما "شتام لعان" لكل من يخالفهم الرأى، وصدق علينا قول النبى صلى الله عليه وسلم أننا فى "زمن الرويبضة"، ولكى نفهم المعضلة الأخلاقية التى يمر بها المصريون حاليا، يجب أن نسلم أولا أن الأخلاق تسربت من بين أيدينا منذ أجيال وأجيال بشكل بطىء فلم نشعر بها إلا عندما أصبح لدينا فجأة أجيال كاملة لا تعترف بفارق السن ولا الخبرة ولا العلم، وتستخدم مفردات العوالم المنحلة الغربية من "حرية بلا قيود وفنون اللذة البصرية المحرمة والتفوق عبر إطلاق التويتات والستاتيس والشات فقط". السؤال الملح هنا متى حدث ذلك؟ وهل للثورة علاقة بانهيار أخلاقنا؟، بالرغم أن الكياسة تقتضى أن أجيب على السؤال الذى طرحته أولا إلا أننى أجد فى إجابة الثانى المدخل إلى توقيت ضياع أخلاقنا بالضبط، ولهذا أقول إن الثورة وموجاتها المتتابعة منذ 25 يناير أظهرت فقط ما كنا نخفيه من شعور بالغربة مع ذوينا واختلافاتنا معهم دون أن نصرح به، فنحن نهزأ بآراء الكبار منذ زمن بعيد، ونرى أنهم استكانوا للفساد والظلم منذ جيل كامل تحت مسمى الاستقرار و"اللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش"، ونهزأ من أنفسنا أننا جميعا نتعامل مع الدين من منطلق "ولا تقربوا الصلاة".. فنصلى ونكذب ونرتشى وننحل أخلاقيا - إلا من رحم ربى - ونصوم ونعتمر ونحج وكأنها واجبات أو صكوك غفران نقدمها لله حتى ندخل الجنة.. واخترت لغة الجمع لأنى لا أستثنى نفسى من الخطأ بل فقط أقول إلا من رحم ربى، ومن هنا نجحت "خطة الشيطان" كما أسمها الأستاذ معز مسعود (مصطلح تعلمته من خطوات الشيطان 2013).. فبدلا من أن تكون ملحدا بلا أخلاق وهذا هو نجاح مل منه الشيطان فأراد انتصارا مدويا جديدا على البشرية.. فجعل الدين مجموعة حركات تبذل فيها الجهد والمال بلا شعور أو بشعور ضعيف بالإيمان.. ومن هنا فقدنا أخلاقنا وهويتنا. فالدين والأخلاق لا يتجزأن و"الشيزوفرينيا" المجتمعية التى نعيش فيها هى ما أنتجت التطرف فى كل شىء.. التطرف حين نحب فنسبغ على من نحب صفات ألوهية سواء شخص أو حزب أو تيار.. والتطرف حين نكره ف"نشيطن" ما نكرهه من شخص أو حزب أو تيار.. وعندما نتطرف فى مشاعرنا نتطرف فى ردود أفعالنا وهنا تنجح "خطة الشيطان" لأننا عندما نتطرف فى الحب أو الكره سنجد لأنفسنا العذر فى التطاول على الغير.. والعذر فى جرح الغير.. والعذر فى الاستهزاء بالآخر لمجرد أنه اختلف معنا فى الرأى.. ونسكن ضمائرنا بمعايير مشوهة ما أتى الله بها من سلطان. إننا نعتز بوجهة نظرنا أو أنها حريتنا الشخصية- ومن هنا بدأت كل المهالك - هذا المعتقد الذى صدره لنا الغرب منقوص عن عمد لأنهم يعلمون فينا التطرف. فى الغرب حدود حريتك تنتهى عند حرية غيرك، فلا يجوز أن تتهكم أو تتجاوز أو تتعدى على غيرك.. أما عندنا نحن فى مصر فكلنا آلهة وكلنا لنا الحق فى التعدى على من نراه مخالفا لنا باللفظ والفعل إذا استدعى الأمر.. وبدأ الأمر ب"كل من قرأ له كتابى دين جعل نفسه شيخ وله طريقة" فظهرت عندنا أول ما ظهرت فى الثلاثين عاما الأخيرة جماعات تكفر الشعب والمجتمع، وترى فى نفسها المصلحين والمنقذين وتبرأ هؤلاء من مجتمعهم بما فيه أهلهم وصلة رحمهم.. فماذا فعل المجتمع حينها (كنا فى التسعينيات من القرن الماضى)؟ هل احتواهم؟ هل تفاعل معهم؟ هل كان لدينا مؤهلون للرد عليهم؟ هل عملنا على إرساء قواعد الدين الصحيح سواء الإسلامى أو المسيحى؟ ماذا فعلت الدولة حينها؟ على المستوى الدولى استخدم النظام القديم الإرهاب فى مصر كفزاعة لإرهاب الغرب، إنه الوحيد القادر على ردعه وأن بقاءه ضمان لعدم تفشيه ووصوله إليهم.. وعلى المستوى الداخلى الحقيقة كان عندنا تطرف آخر اسمه "رفع سقف الانحلال تحت مسمى الفن". فبدأ عصر ربط الدين بالتطرف فى الأفلام والمسلسلات والمسرحيات وترويع الآمنين وغير المتدينين من نفس الملة وتخويف المسحيين من كل ما له صلة بالإسلام إلا المظاهر. وساهم كل المتطرفين مشكورين فى تعميق هذه الأساليب بطريقتهم "اللى تكره الواحد فى التدين اللى حييجى من وشهم"، واحتفل الشيطان بأولى انتصاراته الجبارة فقد أبقى على كل المسميات "المصريون متدينون بطبعهم" أو "المصريون طيبون بطبعهم"، وهدمها تماما من داخلها. وبدأت المرحلة الثانية وهى "حريتى وأنا حرة فيها"، وتصاعدت النبرة مع الغلاء والبطالة وزيادة غنى الأغنياء، ومرض وسوء مستوى معيشة الفقراء مع بداية الألفية، وكذلك الانفتاح على عالم أصبح الأسهل فيه أن ترى وتنبهر بالعالم كله على الإنترنت.. ومن هذه القوة الجديدة تجمع الشباب ومع معطيات أخرى عديدة بدأ التمرد على الوضع الذى أفضى إلى ثورة 25 يناير وموجاتها.. ولكن الثورة قامت على أساس الرفض للوضع والفساد، وتحولت إلى رفض آخر.. لقد اغتر كل واحد بقوته.. ونسينا الأخلاق فى الاختلاف قبل الاتفاق، والأخلاق فى التعبير وأصبح "رفع برقع الحيا" شجاعة و"تطويل اللسان مع الكبير" ثقافة، و"فهم إلى العواجيز مش فهمينه"، و"الاتهام بالخيانة والعمالة" تهمة عادية لأى حد مختلف مع انتمائنا وأحيانا إلقاء التهم جزافا حتى تلتصق بالشخص (المهجوم عليه)" التغييب والسطل وبيشرب صنف عالى "أيضا لا أخص فصيل فنحن فى زمن عدم الانتماء لفصيل شرف، حيث كل الفصائل تتناحر حرفيا لنصرة نفسها لا نصرة وطننا. فلم يعجبنى التشفى من الإخوان عندما كانوا فى السلطة ومن مواليهم الذين استشهدوا بآيات الله، بأنهم كلمة الله على الأرض وأن من عاداهم هم "القوم الظالمين الضالين المجحومين" والتطاول على كل ذى علم أو دين أو كبير أو صغير اختلف معهم، وهو ما جعل ممن عارضهم بطل بالرغم من أن المعارضين أحيانا كانوا تحت المستوى المطلوب بمستويات، ولكن من منطلق "ده واقف للإخوان ولا همه ده طلع راجل بجد". ولم يعجبنى أن السلطة لما أدارت لهم ظهرها نهشهم المجتمع نهشا، متى سنتعلم ثقافة الاحتواء؟ متى سنتعلم ثقافة التسامح التى نادى بها المسيح عيسى عليه السلام، ومن ورائه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟.. خاصة مع غير المنخرطين منهم سياسيا أو حزبيا إنما يبدون اعتناقا أو ميلا لأفكارهم.. متى سنتحرر من عبودية التشفى ونخرج إلى نور التعايش؟ ما قلته عن خطة الشيطان هو أمر يفعله الشيطان وأتباعه من البشر بشكل علنى وبموافقتى وموافقتك، لأننا واقعين تحت تأثير إدماننا للسهل وتعليق أخطائنا على شماعة الآخرين والدنيا والزمن.. وكل هؤلاء منا براء. وحتى هذه اللحظة لا يزال الشيطان فائزا بلا منازع فى نزاله مع أخلاق المصريين، ولكن يظل الأمل فى الله ويظل الأمل سبب البقاء، ولكن الله قرن الأمل بالعمل فيقول الله تعالى فى القرآن الكريم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. يعنى فلنعقد النية ونتبعها بالعزم ثم نصدقها بالعمل وسوف يسدد الله خطواتنا بالنجاح. فلننبذ قبليتنا البالية وأنانيتنا الطاغية وحساباتنا الخاصة ورغبتنا الملحة أن نكون مع الفريق المنتصر لنتباهى بذلك.. علينا أن نترفع عن حبنا لأنفسنا ونحب وطننا حب بالكلام لا بالأفعال فلو كان للوطن لسان لقال لنا بحسرة "مباخدش منكم غير كلام.. كلام وبس"، فلنتعلم من تعاقب الليل والنهار وليكن لدينا أمل فأشراق كل صباح فرصة جديدة لتغيير أنفسنا إلى الأحسن فقط لا يجب أن نستسلم لطريق ولنفكر خارج الصندوق وسوف ننجح فليس العبرة أن نكسب نزالا فى الحديث، ولكن العبرة أن نعبر عن رأينا ونكسب صديق ونحترم كبير ونحافظ على رفيق.. وعندما تلتحم قناعاتنا مع ثوابت ديننا حينها فقط سوف نهزم شياطين الجن والأنس التى تريد الشر بمصرنا.