نقلاً عن اليومى.. ثمانى ساعات، هى الفترة الزمنية التى قضتها «اليوم السابع» داخل أحد مصانع إنتاج الجبن الأبيض فى منطقة العمرانية بمحافظة الجيزة الذى تم إثبات وجود المادة فى عينة مسحوبة منه وذلك لرصد المراحل التى تمر بها عملية إنتاج الجبن وما إذا كانت تلك المصانع تتبع الإرشادات الصحية والبيئية اللازمة أم لا. الانضمام لصفوف العاملات فى الفترة الصباحية بدأ من الساعة السابعة، الجميع يصطففن أمام المعمل الذى لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار ويتساوى طولا مع الدور الأول من إحدى العمائر الملاصقة له، تعلوه لافتة حديدية صغيرة تحمل اسم المعمل وتخصصه. دقائق قليلة وأمر المسؤول عن العمالة بالمصنع، البنات بالدخول، فذهبن جميعا لغرفة أسمنتية صغيرة تملؤها الحشرات الزاحفة فى كل مكان يفصلها عن الثلاجة المخصصة لحفظ الجبن وغيرها من منتجات الألبان باب حديدى، ليتم شحنها على عربيات بعد ذلك وتوزيعها على التجار والمحلات، داخل الغرفة بدأت البنات فى تبديل ملابسهن وارتداء «العباءات»، ثم ذهبت كل منهن لمكان عملها، فمنهن من ذهبن لصب الجبن القريش فى الخوص وتعليقها لتجف من المياه الموجودة فيها وتتماسك، وأخريات لتسخين اللبن وتبريده، وبنات ذهبن لتغليف ما تبقى من الجبن عن اليوم السابق ورصها فى جرادل بلاستيكية بعد أن انتهى ما يقرب من 3 بنات من تنظيف المكان والتخلص من آثار وقمامة عمالة الفترة المسائية. فور دخولنا المصنع بدأنا فى مقاربة الواقع مع ما تنص عليه التعليمات التى وضعتها هيئة المواصفات والجودة ووزارة الصحة عن بيئة العمل الواجب توافرها فى هذه المصانع المخصصة لإنتاج هذا النوع من الأغذية تحديدا، وذلك على اعتبار أن الألبان ومنتجاتها من أكثر الأغذية عرضة للتلوث، وبالتالى فهى بحاجة لتوفير بيئة خاصة لإنتاجها. اكتشفنا أن المخالفات تبدأ ببنية المصنع الداخلية، الأرضيات وأماكن صرف المياه، مرورا بالعاملين وسلوكياتهم، وصولا إلى مرحلة تعبئة الجبن وتوزيعه. أولا أرضية المصنع: تنص اشتراطات هيئة المواصفات والجودة ووزارة الصحة ودليل الرصد الذاتى فى صناعة منتجات الألبان الصادر عن وزارة البيئة، أن تكون أسطح الجدران والفواصل والأرضيات مصنوعة من مواد غير منفذة وليس لها تأثير سام، وملساء، ويجب تشييد الأرضيات بحيث تسمح بالصرف الكافى والتنظيف، لكن فى المصنع جاء الأمر مختلفًا بعض الشىء، فالأرضيات تغطيها طبقة من الصدأ، وعلى الرغم من أنها مصنوعة من السيراميك والبلاط فإنها غير مستوية وعلى جانبيها توجد ممرات لصرف المياه وخراطيم الخزانات التى يتم بها غسل الجرادل وتنظيف الأرضية ملقاة فى كل مكان ناهيك عن أحذية العاملين والحشرات الطائرة التى تستقر فى أوانى ملء اللبن بين الحين والآخر تملأ المكان. ثانيا سلوك العاملين: أكثر المخالفات التى لاحظناها داخل المصنع تتمثل فى هذا البند تحديدا الذى جاءت فيه أشياء على العكس تماما من الاشتراطات الموضوعة بداية من العاملات اللاتى لم يرتدين الملابس الوقائية اللازمة و يخبرن الإدارة فى حالة وجود حالات مرضية بينهن كما هو منصوص عليه، إذ اكتفت جميع البنات بارتداء العباءة أو الجلباب وخلع الأحذية والتجول إما حافيات الأقدام أو مرتديات «شبشب» ودون قفازات، إضافة إلى قيام إحداهن بالسعال وسط الأغذية المكشوفة نتيجة إصابتها باحتقان فى الزور مع الحمى. عدم ارتداء القفازات أضر كثيرا بالاشتراطات الصحية الواجب توافرها، حيث لم تتهاون العاملات فى تجفيف أجبنتهن من العرق الذى يتصبب منها بأيديهن ثم يسارعن فى وضعها باللبن ليتأكدن من حرارته أو ليستطعمن الكريمة المستخلصة منه أو لقياس قوام الجبنة وذلك كله خلافا للاشتراط الناص على أن الأفراد الذين لا يحافظون على درجة مناسبة من النظافة الشخصية أو الذين يعانون من أعراض أو حالات صحية معينة أو الذين يتصرفون بطريقة غير ملائمة يمكن أن يتسببوا فى تلويث الأغذية ونقل الأمراض إلى المستهلكين. إحدى العاملات قامت بوضع شاشة مليئة بالصابون والكلور على فوهة الخرطوم الموصل بماكينة اللبن ليتم تصفيته، حيث إنها لم تقم بشطف الشاشة بعد غسلها بالصابون بالمياه للتأكد من صلاحيتها للاستخدام واكتفت فقط بعصرها جيدًا. ثالثا مرحلة استلام اللبن وإنتاج الجبن: عربة كبيرة وقفت أمام المصنع فى السابعة والنصف صباحا، وبحركة مرنة قام «المشرف على العمال» ونائب مدير المصنع، بإخراج خرطوم طويل نافذ من شباك حديدى يقوم بسحب اللبن المجمع من الباعة السريحة وأصحاب المواشى فى المناطق المجاورة وتوصيله فى الماكينة الموجودة بالداخل والمسؤولة عن تصفيته من الشوائب دون وجود شخص مدرب على فرز اللبن للتأكد من صلاحيته قبل إضافته على اللبن الأقدم، بعدها يتم فصل اللبن عن الكريمة الموجودة فيه، ثم توصله بماكينة أخرى تقوم بدورها بتسخين اللبن عند درجة حرارة 50 درجة مئوية، ثم تقوم العاملة المسؤولة عن هذا الجزء تحديدا بتوصيله بماكينة التبريد، وبعدها تعيد تسخين اللبن المبرد مرة أخرى عند درجة حرارة 70 وتبرده فى المرحلة الأخيرة عند درجة 40 درجة مئوية، وأثناء كل هذه المراحل تقوم العاملة برش اللبن عبر بخاخ يحتوى على مادة تميل للون الأبيض أعطاه لها «رئيس العمالة» فى بداية اليوم، وبسؤالها عن المادة المرشوشة قالت «دى بنرشها علشان تقلل رغاوى اللبن». أثناء مرحلة التسخين، كانت بقية البنات مشغولات بتغليف الجبن الموجود فى الثلاجة لوصول أحدى رجال التوزيع الذى سيقوم بطرحه على المحلات، وأخريات تفرغن لغسيل الجرادل البلاستيكية لإعادة تعبئتها من جديد، فهذه الجرادل تعود للمصنع مرة أخرى من خلال الموزعين، وبعد الانتهاء من مرحلة الغسيل تقوم بنات أخريات بتمرير كل جردل تحت ماكينة لطباعة تاريخ إنتاج جديد يحمل تاريخ اليوم المعبأ فيه الجبن، على الرغم من أن هذه الكميات من الجبن يكون قد تم تصنيعها قبل ذلك بأيام، ثم يأمرهم بعد ذلك «رئيس العمال» بوضع لاصقة تحمل اسم المصنع ونوع الصنف وتاريخ انتهاء لا يزيد عن شهر، بينما ذهبت فتاة أخرى تقوم بتكييس «صوانى حديدية» تجهيزا لليوم التالى والتى فيها يتم صب اللبن وإضافة المنفحة الحيوانية لتصنيع الجبن. ووفقا لما ذكرته لنا إحدى العاملات، فإن دائرة توزيع هذا المصنع تكون داخل العمرانية وخارجها، «إحنا بنوزع فى أماكن كثيرة لدرجة أن المشرفين قبل ذلك اتصلوا بنا ليلا لنعاود فتح المصنع بعد انتهاء يوم العمل لتسليم طلبية 200 جردل جبن للمطار». محمد الدماطى، العضو المنتدب لإحدى الشركات الكبرى فى انتاج الجبن للصناعات الغذائية ومنتجات الألبان ورئيس شعبة الألبان بغرفة الصناعات الغذائية، يكشف عن تضرر شركات الألبان الكبرى ومنتجاتها من مثل تلك المصانع قائلا: عندما يتجدد الحديث عن إضافة الفورمالين فى الجبن من قبل المصانع المخالفة نجد المستهلكين عزفوا عن شراء منتجات الألبان بشكل عام، وهذا بالتأكيد كبدنا خسائر كثيرة، ناهيك عن أن مثل تلك المصانع لا تطبق عليها قواعد التأمينات والضرائب مثلما يحدث مع الشركات الكبرى، وبالتالى أيضا تكون المنافسة فى السوق غير عادلة.