ما إن أتى الربيع من تونس الخضراء مجتاحا بلاد العُرب متجولا ما بين أطلالها مسطراً حلماً كثيرا ما انتظرته شعوبها، باحثا عن واقع ونظام جديد يؤسس له بإرادة حرة مستقلة غير موجهة، فكانت ثورات اقتصادية واجتماعية وسياسية تحررية متتابعة رصدها العالم أجمع بعين من المفاجأة والانبهار، ليس فقط لما حملته من مشهد بات أقرب للخيال، ولكن لأنهم أمام واقع لم تقدر أجهزتهم الاستخباراتيه على توقعه، ليثبت عجزها، ولتبحث عن حلقات تواصل جديدة تستطيع من خلالها أن توطد نفوذها. ونعود بالمشهد فنرى أن التأثير والتدخل الغربى فى الثورتين التونسية والمصرية كان شبه معدوم فى بدايته، بعكس باقى الثورات التى طالت مدتها، فسنحت للأجهزة الاستخباراتية العالمية بصياغة رؤية تدخلية وتوجيهية، لتفقد الثورات براءتها وبريقها، وتغمر بحور الدم جنباتها، فتتمزق الأوطان وتعم الفتنة أرجاءها. لنأسف على ما نرى من دعوات تدعو لتدخل غربى فى شئوننا ليس سياسيا فحسب، بل أصبحنا أمام نداءات بتدخل عسكرى، لأعود وأتذكر هتلر فى قولته "أحقر الناس الذين قابلتهم أولئك الذين ساعدونى على احتلال بلادهم". فماذا بعد أن سمحتم بوجود قواعد أمريكية فى أغلب بلادكم موجهة ضد أشقائكم، ماذا بعد أن تكونوا أداة فى أيدى من أعد المخططات لتقسيم وشرذمة أوطانكم، ماذا بعد أن ساهمتم فى إيقاع لبنان فى الفتنة وأسقطتم العراق بخيانتكم، وتضيعون سوريا بساذجتكم، ماذا بعد أن استنفذتم مخازن سلاح الغرب فى قتل أنفسكم، ماذا بعد أن أضعتم شرف قوميتكم وعروبتكم، ماذا بعد أن لوثتم نضالكم وثورتكم. فلا تنتظروا من التاريخ إنصافا، فسيذُكر من باع واشترى من زرع وحصد من خان وقتل.. وسيروى فى يوما ما، أن أخاً ترك أخاه لتأكله الذئاب، فعندما أتت يوماً وجاعت لم تجد سواه، فأكلته! فلتفيقوا وليكن حلكم بإيديكم، حلاً عربيا خالصا، لا تلوثوا فيه ثورتكم، ولتبقى بلادكم وإن جارت عليكم عزيزة وأهلكم وإن ضنوا عليكم كرام، فمهما اختلفت الأفكار والعقائد والمبادئ، مهما ظلمتم أوظُلمتم، مهما حييتم غرباء أوفرقاء لتكن مظلتكم وطنكم الذى يحصنكم، فلا يوجد أبدا فى كتب التاريخ ما يبرر أن تبيعوا أوتخونوا أوطانكم، وليبقى نضالكم أنشودة طاهرة يتغنى بها الأبناء والأحفاد، لتظل كلمات الشاعر البارودى خالدة منشدة: بلادُ العُربِ أوطانى منَ الشّامِ لبغدان، ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ، فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا، لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ، بلادُ العُربِ أوطانى.