"لدى حلم بأن يوم من الأيام أطفالى الأربعة سيعيشون فى شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوى عليه أخلاقهم".. تلك كانت هى مقولة الطفل الذى كاد التوتر يفتك بوالده "كينج" فى مدينة أتلانتا، فى عام 1929، حيث كانت أفكار الوالد "كينج" مركزة حول زوجته التى عانت أشد العناء فى حملها للطفل وبعد ساعات من العذاب ولد "مارتن لوثر كينج"، كادت القلوب تتوقف عن الحركة من أجله؛ لأنه بدا ميتًا إلى أن صدر منه صراخ واهن، سببه صفعة شديدة من الطبيب. كانت جذور هذا الطفل تمتد بعيداً فى التربة الأفريقية التى اقتلع منها أجداده ليباعوا ويشتروا فى الأراضى الأمريكية، ولكى تستغل أجسادهم وأرواحهم لخدمة السيد الأبيض فى الوطن العنصرى. ذلك الزعيم الأمريكى ذو الأصول الإفريقية، لم يكن بالنسبة للشعب مجرد قس وناشط سياسى، بل اعتبروه ناشطاً إنسانياً، فقد كان من أهم المطالبين بإنهاء التمييز العنصرى ضد بنى جلدته. ففى عام 1964 حصل على جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر من يحوز عليها، حيث اعتبر الناس مارتن لوثر كنج من أهم الشخصيات التى دعت إلى الحرية وحقوق الإنسان. كان الأب كينج ذا تطلعات واسعة، فعمل راعياً لكنيسة صغيرة بعد أن تلقى العلم فى كلية "مور هاوس"، وعاش بعد زواجه فى بيت "ويليامز" الذى أصبح رفيقه فيما بعد فى حركة نضال الأفارقة، وهى الحركة التى سار فيها مارتن على درب أبيه وجده حتى أصبح أشهر الدعاة للمطالبة بالحقوق المدنية للأفارقة والأقليات. بدأت القصة فى سبتمبر من عام 1954 حيث قدم مارتن وزوجته إلى مدينة "مونتجمرى" التى كانت ميداناً لنضال مارتن، وما إن جاء يوم الخميس الأول من ديسمبر عام 1955، حيث رفضت السيدة روزا باركس وهى سيدة سوداء أن تخلى مقعدها لراكب أبيض، فما كان من السائق إلا أن استدعى رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليها بتهمة مخالفة فكانت البداية بالنسبة له بسبب ما رآه من قهر مقنن وليس مجرد ظلم مجتمعى من أفراد، بل كان يرى أمامه ظلما مجتمعيا مدعوما بعنصرية الدولة. وبعد تولى "كيندى" منصب الرئاسة ضاعف كينج جهوده المتواصلة لإقحام الحكومة الاتحادية فى الأزمة العنصرية المتفاقمة إلا أن جون كيندى استطاع ببراعة السياسى أن يتفادى هجمات كينج الذى كان لا يتوقف عن وصف الحكومة بالعجز عن حسم الأمور الحيوية، ومن هنا قرر كينج فى أواخر صيف عام 1963 أن يدعو إلى سلسلة من المظاهرات فى برمنجهام، وعمل على تعبئة الشعور الاجتماعى بمظاهرة رمزية فى الطريق العام، وفى اليوم التالى وقعت أول معركة سافرة بين السود المتظاهرين ورجال الشرطة البيض الذين اقتحموا صفوف المتظاهرين بالعصى والكلاب البوليسية، ثم صدر أمرا قضائيا بمنع كل أنواع الاحتجاج والمسيرات الجماعية وأعمال المقاطعة والاعتصام، وبناء عليه قرر كينج لأول مرة فى حياته أن يتحدى علانية حكماً صادرا من المحكمة، وسار خلفه نحو ألف من المتظاهرين الذين كانوا يصيحون "حلت الحرية ببرمنجهام"، وألقى القبض على كينج وأودعوه بالحبس الانفرادى، وحرر خطابه الذى أصبح فيما بعد من المراجع الهامة لحركة الحقوق المدنية، وقد أوضح فيه فلسفته التى تقوم على النضال فى إطار من عدم استخدام العنف. لم يكتفِ "مارتن" بكون حركته قائمة على تحرير السود من سطوة المجتمع العنصرى والدولة المستبدة، بل قرر أن يضم معه كل المقهورين فكونه قس ورجل دين مسيحى لم يمنعه من الاتحاد مع زعيم المسلمين الأفارقة آنذاك "مالكولم إكس" لتضم الحركة جميع الواقعين تحت وطأة الاستبداد، فكونهم مسلمين جعل الجميع يعاملهم بشيء من التعالى وكونهم أفارقة الأصل جعلهم يقعون تحت وطأة مضاعفة من الظلم والاستعباد. تلقى أفارقة أمريكا درسهم من تلك الأحداث والاتفاقيات والتنسيقات المشتركة وقاموا فى عام 1963 بثورة لم يسبق لها مثيل فى قوتها اشترك فيها 250 ألف شخص، منهم نحو 60 ألفا من البيض متجهة صوب نصب لنيكولن التذكارى، فكانت أكبر مظاهرة فى تاريخ الحقوق المدنية. وهناك ألقى مارتن لوثر كنج، خطبته الشهيرة التى افتتحها قائلاً: "لدى حلم بأن يوم من الأيام أطفالى الأربعة سيعيشون فى شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوى عليه أخلاقهم". ووصف كينج المتظاهرين كما لو كانوا قد اجتمعوا لاقتضاء دين مستحق لهم، ولم تفِ أمريكا بسداده "فبدلا من أن تفى بشرف بما تعهدت به أعطت أمريكا الزنوج شيكا بدون رصيد، شيكا أعيد وقد كتب عليه "إن الرصيد لا يكفى لصرفه". فدقت القلوب وارتجفت، بينما أبت نواقيس الحرية أن تدق بعد، فما إن مضت ثمانية عشر يوما حتى صُعق مارتن لوثر كينج وملايين غيره من الأمريكيين بحادث وحشى، إذ ألقيت قنبلة على الكنيسة المعمدانية التى كانت وقتها زاخرة بتلاميذ يوم الأحد من الزنوج، فعاد كينج مرة أخرى إلى مدينة برمنجهام، وكان له الفضل فى تفادى انفجار العنف. وفى نفس العام أطلقت مجلة "تايم" على كينج لقب "رجل العام" فكان أول رجل من أصل أفريقى يمُنح هذا اللقب، ثم حصل فى عام 1964 على جائزة نوبل للسلام لدعوته إلى اللاعنف، فكان بذلك أصغر رجل فى التاريخ يفوز بهذه الجائزة عن عمر 35 عاما، ولم يتوقف عن مناقشة قضايا الفقر واضطهاد السود كما عمل على الدعوة إلى إعادة توزيع الدخول بشكل عادل إذ انتشرت البطالة بين الأفارقة وقتها، فضلاً عن الاستغلال السنوى الذى يلحق بالأفارقة على أيدى محصلى الضرائب والاستغلال الشهرى على أيدى شركة التمويل الاستغلال الأسبوعى على أيدى الجزار والخباز، ثم الهزائم اليومية التى تتمثل فى الحوائط المنهارة والأدوات الصحية الفاسدة والفئران والحشرات. وفى الرابع من شهر أبريل عام 1968، اغتيل مارتن لوثر كينج ببندقية أحد المتعصبين البِيض وهو "جيمس إيرل" أثناء استعداده لتنظيم ودعم مسيرة فى "ممفيس" من أجل مطالب جامعى النفايات هناك. وقد حكم على القاتل بالسجن 99 عاما، غير أن التحقيقات أشارت إلى احتمال كون الاغتيال كان مدبراً، وأن جيمس كان مجرد أداة فى يد من خططوا للقضاء على أحلام المقهورين ولكن هل يموت الحلم؟ يُذكر أن أقوال لوثر كثيرة التداول بين الباحثين عن الحقوق والحريات فى العالم كله ومعظمها شائع ومنها "علينا أن نتعايش معاً كبشر، أو نموت معاً كأغبياء"، و"الكراهية تشل الحياة، والحب يطلقها" و"الكراهية تربك الحياة، والحب ينسقها؛ والكراهية تظلم الحياة، والحب ينيرها"، و"لا أحد يستطيع ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت"، فضلاً عن ديباجته الشهيرة "لدى حلم" والتى استخدمها أبناء الربيع العربى للتعبير عن أنفسهم كثيراً، فقد فارق مارتن لوثر الحياة ولكن الأحلام لا تفارقها، والكُل لديه حلم.