كان المسجد في عهد النبى صلى الله عليه وسلم، مرفقا متعدد الوظائف، كان مصلى، ومعهد تعليم، ومنبر إعلام، ومركز اجتماعات عامة، ومنتدى شورى، إذن كان المسجد منارة الدين وعقل المجتمع وقلبه النابض بالحياة، وبالطبع تأتى خطبة الجمعة على رأس أدوات المسجد للتأثير في المجتمع. وتعد خطبة الجمعة إحدى وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وهى من أهم وسائل التربية والتوجيه والتأثير، ولها ثمرات كثيرة فهى التي تهدئ النفوس الثائرة، وهى التي تثير حماسة ذوى النفوس الفاترة، وهى التي ترفع الحق، وتخفض الباطل، وتقيم العدل، وترد المظالم، وهى صوت المظلومين، وهى لسان الهداية. لذا كانت الخطبة جزءًا من مهمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه وأليم عقابه، ليقلعوا عما هم فيه من ضلال وفساد عقدى وخلقى واجتماعي. وكم من خطبة أحدثت تحولًا في عادات الناس وتصوراتهم، وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين؛ وكم من خطبة أطفأت ثائرة فتنة، وكم من خطبة أثرت في تثبيت قلوب جيوش فكان النصر حليفهم. ولخطبة الجمعة مكانة خاصة، فهى عبادة أسبوعية تُهز بها أعواد المنابر، ويلتقى المسلمون في مساجدهم لسماعها، ويصدرون متأثرين بكلماتها ومعانيها، قد أخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الآثام والشر. فخطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام لها دورها الفعال في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، ولها دورها البارز في خدمة الدعوة إلى الله، فقد خصَّ الله المسلمين بيوم الجمعة، وجعله عيدهم الأسبوعي، وفرض عليهم فيه صلاة الجمعة وخطبتها، وأمر المسلمين بالسعى إليها جمعًا لقلوبهم، وتوحيدًا لكلمتهم، وتعليمًا لجاهلهم، وتنبيهًا لغافلهم، وردًّا لشاردهم، وإيقاظا للهمم، وشحذًا للعزائم، وتبصيرًا للمسلمين بحقائق دينهم وعقيدتهم، ومكايد عدوهم، ومما يجب عليهم، وما لا يسعهم جهله ؛ وتثبيتًا لهم جميعًا على تعظيم حرمات الله، لهذا وغيره كان لخطبة الجمعة مكانة سامية وأهمية بالغة. وفتحت أحداث الفتنة الكبرى التي وقعت بين على ابن طالب ومعاوية بن ابى سفيان وخاضها غالب الصحابة رضوان الله عليهم، الباب، امام خطبة الجمعة لتلعب دورا سياسيا هاما في حياة المسلمين، اذ كان كل فريق يستخدم الخطبة في الانتصار لفريقه. ويرى البعض أن من الآثار السياسية لخطبة الجمعة، الدعاء للسلاطين وأولى الأمر، خاصة أنه لم يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، دعاء لولى الأمر. في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: الاستحباب: وهو لبعض فقهاء المالكية والحنابلة، وقال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (2/ 230 «وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ، وَلِنَفْسِهِ، وَالْحَاضِرِينَ، وَإِنْ دَعَا لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ، فَحَسَنٌ» والقول الثاني: الجواز: وهو لبعض الشافعية. قال النووى رحمه الله في «المجموع» (4/ 521): «وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلسُّلْطَانِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ إمَّا مَكْرُوهٌ وَإِمَّا خِلَافُ الْأَوْلَى هَذَا إذا دعا بِعَيْنِهِ فَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ بِالصَّلَاحِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ فَمُسْتَحَبٌّ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجَازَفَةً فِى وَصْفِهِ وَنَحْوَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ». القول الثالث: إنه بدعة: وهو لبعض المالكية وبعض الشافعية. واستدل المانعون بأنه لم يرد ذلك في الشرع. وأما المبيحون والمستحبون فاستدلوا بما رُوِيَ عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوسَى أَمِيرًا بِالْبَصْرَةِ، فَكَانَ إِذَا خَطَبَنَا حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو لِعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَأَغَاظَنِى ذَلِكَ مِنْهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ صَاحِبِهِ تُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَصَنَعَ ذَلِكَ ثَلاثَ جُمَعٍ ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَشْكُونِي، وَيَقُولُ: إِنَّ ضَبَّةَ بْنَ مِحْصَنٍ الْغَنَوِيَّ يَتَعَرَّضُ لِى فِى خُطْبَتِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ أَشْخِصْهُ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَشْخَصَنِى إِلَيْهِ، فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ، فَضَرَبْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا ضَبَّةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغَنَوِيُّ، قَالَ: فَلا مَرْحَبًا وَلا أَهْلا، قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا الْمَرْحَبُ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الأَهْلُ فَلا أَهْلَ لِى وَلا مَالَ فِيمَ اسْتَحْلَلْتَ يَا عُمَرُ إِشْخَاصِى مِنْ مِصْرِى بِلَا ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ. قَالَ: وَمَا الَّذِى شَجَرَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَامِلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: الآنَ أُخْبِرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ إِذَا خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ يَدْعُو لَكَ، فَأَغَاظَنِى ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ صَاحِبِهِ تُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ، فَصَنَعَ ذَلِكَ ثَلاثَ جُمَعٍ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْكَ يَشْكُونِي، قَالَ: فَانْدَفَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَاكِثًا، فَجَعَلْتُ أَرْثِى لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ وَأَرْشَدُ، فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِى ذَنْبِى يَغْفِرِ اللَّهُ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ انْدَفَعَ بَاكِيًا وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِى بَكْرٍ وَيَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ... الحديث. قالوا: وهذا أثر عن أبى موسى رضى الله عنه فيه الدعاء لولى الأمر، وأقره عمر رضى الله عنه. كما عللوا ذلك بعلة؛ قالوا: لأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم؛ ففى الدعاء له دعاء لهم، وذلك مستحب غير مكروه. الخطبة تقاوم الاستعمار لعبت خطبة الجمعة دورا حيويا في المعركة ضد المستعمر الفرنسى بقيادة القائد الطموح (نابليون) الذي أشاع الرعب والفزع في قلوب ملوك وأمراء أوروبا، وهاهو تراوده طموحاته في غزو مصر المحروسة، ويأتى دور الأزهر ورجالاته، الذين شقت حناجرهم عنان السماء بخطب رنانة أشعلت الحماس في نفوس المصريين، وخطفت النوم من عيون هذا المغامر، فلم يجد بدًا من دخول الأزهر بخيله وخيلائه ظانًا أنه بذلك قضى على هذه القلعة الحصينة ولكنه أجبر على الخروج والاعتذار، وكتب الأزهر شهادة فشل لهذا القائد الجامح، وتخرج جيوش الفرنسيس، تجر ذيل الخيبة متجرعة كؤوس الهزيمة المرة، بعد حملة استمرت 3 سنوات من 1798 وحتى 1801 وبعد الاحتلال البريطانى لمصر كان لخطبة الجمعة دور كبير في إشعال الروح الوطنية ضد المحتل الانجليزي، وعندما بدأت ثورات الشعب المصرى حاول المحتل الانجليزى زرع الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر. فكان رجال الأزهر هم صمام الأمان الذي فطن لمحاولات المحتل، وتعاون شيوخ الأزهر والقساوسة الأقباط وخطبوا في الأزهر والكنائس ضد المحتل الإنجليزي. وفى ثورة 1919م أذكى خطباء الجمعة روح الثورة ضد الاستعمار البريطاني. وكان الأزهر معقلًا للحركة الوطنية تنطلق منه جماهير الشعب، حتى إن المندوب السامى البريطانى طلب إلى شيخ الأزهر أبى الفضل الجيزاوى إغلاق الأزهر ولكن الجيزاوى رفض وبقى الأزهر يتحدى السلطات الاستعمارية. وحاول الإنجليز كثيرا منذ بداية الاحتلال القضاء على الأزهر كمركز للإسلام في مصر، ومن أبرز تلك المحاولات ما فعله اللورد كرومر المعتمد البريطانى في مصر من سحب الامتيازات من الدارسين في الأزهر. تراجع غريب تراجع دور خطب الجمعة في العقود الأخيرة، وصارت تبث في الغالب مواعظ تقليدية نمطية مع اختلاف في موضوعات يتناولها أئمة في اتجاه مذهبى أو في اتجاه حركى من وحى حركات إسلامية. وأصبحت موضوعات خطبة الجمعة نمطية، في وقت فيه تغلى المجتمعات بمسائل كثيرة تفرضها المشكلات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحديات يفرضها تطور العلم في مجالات الفلك والفضاء وفى مجالات علوم الأحياء وعلوم الإنسان وكلها توجب إفادات من خطب الجمعة بما يجيب على التساؤلات المشروعة بهدى من الدين فلا يتبلبل الناس، ويقدم فقهًا ينير طريقهم، ومع أن فكر المسلمين تصدى عن طريق المؤلفات وأجهزة الإعلام لبعض تلك القضايا والتحديات فإن خطب الجمعة واصلت غالبًا نهجها النمطى لا تحفل بالمستجدات. بعد عقود طويلة من القيود والصمت تحولت خطبة الجمعة في مصر بعد ثورة 25 يناير إلى سوق عكاظ سياسي، وميدان للمبارزة بين الخطباء، وتحول الخطيب بدوره إلى محلل سياسي، وأصبح رأيه «حكما فاصلا» في الكثير من الأوضاع المحلية والعالمية. منحت ثورة 25 يناير خطبة الجمعة شهادة ميلاد جديدة للمسجد، ودفعت خطبة الجمعة المساجد إلى طريق السياسة من جديد، وصعّدت الثورة من أسماء خطباء في مساجد مصرية بعينها، وكان لخطبة الجمعة دور كبير في حشد الملايين في مليونيات ميدان التحرير. وأصبح خطيب المسجد أكثر حرية داخل المساجد عقب سقوط نظام مبارك، وبدأ في التحدث عن كثير من الأمور الاجتماعية والسياسية، إذ كانت هناك بعض الآيات في بعض الأحاديث تتعلق بأمور الحكم والسياسة كان دائما الخطيب عندما يأتى إليها لا يتناولها بالتوضيح والتفصيل، بل يمر عليها مرور الكرام خوفا من الأجهزة الأمنية السابقة، لكن الخطيب مطالب بألا يكون له أي انتماء سياسي أو دينى متعصب، لأن التيارات الدينية المتعصبة تضر الدعوة أكثر مما تفيدها، وأن يكون هدفه الأساسى خدمة الإسلام. وهو دليل على عودة الدور السياسي للمسجد، الذي كان له السبق في محاربة أي عدوان على مصر ولكن مع اختلاف الظروف، وان كانت لا تزال هناك أزمة في الدعاة الذين يتحدثون في خطب الجمعة، وهما نوعان: الأول «مسيَّس» بالكامل، يستهويه تيار سياسي معيّن ويأخذ الرأى العام إليه، ويمثله دعاة الإخوان أو التيار السلفى أو الجماعة الإسلامية. والنوع الثانى وهم دعاة وزارة الأوقاف الذين يبلغ عددهم 50 ألف داعية، ومن يجيدون الحديث في أمور الدين والسياسة لا يتعدون ال5 آلاف. ولكن الخطيب مطالب بألا يتحدث عن الأمور العامة بمصداقية دون تجريح لأن أخلاق الدعاة تقتضى معالجة أمراض الأمة وتقديم الحلول لها وعدم النقد فقط. وتبقى فكرة ما يسمى بالمسجد الجامع في كل حى هي الحل حتى نعيد للدعوة بريقها، وأن نضع المسجد على طريق الحياة السياسية السليمة بأن تكون خطبة الجمعة في أكبر هذه المساجد ويلقيها أفضل الأئمة. طالع أيضًا هكذا خطب الرسول ص10