قامت دساتير العهد الثوري بتأسيس «بطريركية ثورية» تندمج فيها كل السلطات، في شخص الرئيس الأب، الذي يعرف مصلحة أولاده القاصرين، أكثر مما يعرفونها، ويري أن واجبه أن يختار لهم حاضرا ، أسعد من ماضيهم، ومستقبلا أكثر رفاهية، وعدلا، واستقرارا، ومن الإنصاف لدساتير هذا العهد أن نقر لها بأنها لا تختلف عن دستور العهد الليبرالي – 1923 – في الاحتفاء بحقوق الإنسان، بل لعلها تتميز عنه بإضافة حقوق لم يرد لها ذكر فيه، ثم أنها توسعت في الحقوق الاجتماعية.. في دستور العهد الليبرالي -كما في دساتير العهد الثوري- سنجد احتفاء بالحق في الحرية، علي نحو يبدو مثاليا فهي تحتفظ للمصريين بالحق في الحرية الشخصية والحق في الخصوصية وتضمن لهم حرمة المنزل، وتطلق حرية الاعتقاد، وحرية القيام بشعائر الأديان والعقائد، ولا تجيز القبض عليهم، أو محاكمتهم، أو معاقبتهم إلا وفقا للقانون ولا تجيز النص علي تطبيق القانون بأثر رجعي وتحظر النفي الإداري، أو تحديد الإقامة وتضمن لهم حقوقا وحريات عامة واسعة، منها حرية الاجتماع، وتكوين الجمعيات، وحق مخاطبة السلطات ، وحرية الرأي والصحافة, وأضافت دساتير العهد الثوري إلي هذه الحقوق الديمقراطية حقوقا أخري لم يتطرق إليها دستور 1923 منها حظر إيذاء المتهم جسمانيا أو معنويا، وأضافت حرية الرأي والصحافة وحرية أخري هي حرية البحث العلمي – دستور 1956 – وأضاف دستور 1971 إليهما حرية الإبداع الأدبي والفني والثقافي. العهد الليبرالى وبينما اقتصر دستور العهد الليبرالي علي مادة واحدة تضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فقد توسعت دساتير العهد الدستوري في هذه الحقوق، بل أفردت لها بابا خاصا منذ دستور 1956 بعنوان « المقومات الأساسية للمجتمع» انقسم إلي بابين في دستور 1971 كفل كلاهما للمصريين تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومستوي لائقا من المعيشة أساسه تهيئة الغذاء والمسكن والخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية وحماية الأمومة والطفولة، والتزمت الدولة بأن تقوم بالتيسير بين عمل المرأة وواجباتها الأسرية، وكفلت للمصريين المعونة في حالة الشيخوخة والمرض والعجز عن العمل. والحقيقة أننا نظلم العهد الثوري إذا أنكرنا أن المصريين تمتعوا في ظله بجانب كبير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يكفلها لهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتوابعه التي نصت عليها دساتير هذا العهد، فقد كانت حرية الرأي والتعبير والنشر والصحافة والتظاهر والإضراب والبحث العلمي مكفولة لكل مواطن يمارس هذه الحريات للإعلان عن تأييده للحاكمين وللتعبير عن سخطه علي الذين ينقدونهم وتنديده بأعداء الشعب الذين يعارضونهم، وكان الحق في العمل وفي المعاش وفي تولي الوظائف العامة وفي تكافؤ الفرص وفي العدالة مكفولا لكل مصري يعيش في حاله ولا يتدخل فيما لا يعنيه، ولا يشتغل بأمور السياسة إلا علي النحو الذي يريده منه الحاكمون، وفي الإطار الذي يحددونه له. مبادئ المساواة وفيما عدا المادة الخاصة بحرية الاعتقاد فيندر في دساتير العهد الثوري أن تجد مادة من المواد التي تضمن الحقوق والحريات العامة لا تحيل إلي قوانين تحكمها، ويندر أن تجد في تلك القوانين قانونا لا يهدر أصل الحق، ولا يشطب علي ما منحه الدستور من حرية سواء كان العهد الثوري قد ورث النص عن أسلافه أو كان قد استلهمه من مصادر كانت –عادة- من نوع ديكتاتورية لويس بونابرت أو نازية هتلر أو فاشية موسوليني أو أوتوقراطية سالازار، وللإنصاف فإن دساتير العهد الثوري لم تهدر من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سوي مادة واحدة هي المادة 21 التي تنص علي أن «لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون في حرية، ولكل شخص بالتساوي مع الآخرين حق تقلد الوظائف العامة، وإرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلي هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دوريا بالاقتراع العام وعلي قدم المساواة بين الناخبين بالتصويت السري أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان التسوية». ومن سوء حظ أن دساتير البطريركية الثورية المصرية كانت مصدر إلهام النظم الثورية الحقيقية والمدعاة التي قامت بها النخب العسكرية وشبه العسكرية في الوطن العربي، تأثرا بالثورة المصرية، لتؤسس جمهوريات رئاسية علي النمط الثوري لا تختلف في جوهرها عن النظم الملكية الاستبدادية كما كانت كذلك مصدر إلهام النظم التقليدية المعاصرة لها. دستور 1954 علي عكس ما يظن البعض فإن النص الكامل لمشروع دستور 1954 لم ينشر – في حدود ما نعلم- من قبل، وكل ما نشر عنه إشارات مقتضبة تضمنها واحد من كتب التاريخ هو كتاب « العدوان» للمؤرخ «أمين سعيد»، واشارات أخري تضمنتها بعض كتب القانون الدستوري، وقد لاحظ الأستاذ «البشري» أن النص الكامل للمشروع اشمل من النص الذي نشره «أمين سعيد» ونضيف أن هناك تناقضا بين ما نشره وبين النص النهائي مما يدل علي أنه اعتمد علي إحدى المسودات الأولي للمشروع. ومع أن الاثنين قد أبديا درجة من الإعجاب الخفي بالمشروع إلا أنهما اتفقا في نقده انطلاقا من أنه يصوغ نظاما ديمقراطيا تقليديا، ومن دون أن يشير إلي دستور 1954 صراحة فضل «أبو زيد» ما اسماه ب»الديمقراطية الجديدة» التي جاء بها دستور 1956 لأنه يجمع بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وهو ما يتفق فيه معه الدكتور «طعيمة الجرف» في كتابه «القانون الدستوري ومبادئ النظام الدستوري في الجمهورية العربية المتحدة» ( 1964)- الذي يقول إن مشروع لجنة الخمسين قد احيل إلي رئيس مجلس الوزراء في 17 يناير 1955 – قبل عرضه علي اللجنة العامة للدستور – وأن «رجال الثورة» قد لاحظوا أنه « وإن كان علي مستوي عال من حيث الصياغة الفنية» إلا أنه لا يستجيب لنداءاتها وأهدافها في القضاء علي الاستعمار وأعوانه وعلي الاقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال مما رجح الاتجاه إلي عدم الأخذ به والعدول عنه إلي أحكام جديدة تتفق مع هذه الشعارات الجديدة وتمد لها الأساس الدستوري اللازم». وفي هذا السياق يبدو الزعم بأن مشروع دستور 1954 كان دستورا للباشاوات وأنه كان يصوغ ديمقراطية تقليدية لتبرير قيام مجلس قيادة الثورة بإلقائه في صندوق القمامة واستبداله بدستور 1956 الوجه الأخر للزعم بأن دستور 1956 الذي وضعه مجلس القيادة كان دستورا للثوار يصوغ ديمقراطية جديدة توازن بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، والحقيقة أن مجلس قيادة الثورة لم يلق بكل مواد مشروع 1954 في صندوق القمامة ولكنه احتفظ من دستور الباشاوات بكل النصوص التي وصفها الدكتور «مصطفي أبو زيد فهمي» بأنها ذات صبغة اشتراكية، بل ونقلها بنفس صياغتها مع تغييرات قليلة في الشكل. العدالة الاجتماعية تقسم المادة الواحدة إلي مادتين أو تضيف مادة لا تغير من الأمر شيئا، بل إن مواد الباب الثاني من دستور الثوار « 1956» وعنوانه «المقومات الأساسية للمجتمع المصري» تكاد تكون هي نفسها مواد الثاني من مشروع دستور الباشاوات، بل إن بعض مواد دستور الباشاوات تبدوا أكثر اشتراكية وأحكم صياغة من بعض مواد دستور الثوار، فالمادة 45 من دستور الثوار تنص علي أن ينظم القانون العلاقات بين العمال وأصحاب العمل علي أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية، بينما المادة 41 من دستور الباشاوات (1954) المناظرة لها كانت تضيف إلي هذا النص تفصيلا مهما ينيط بهذا القانون نفسه «تحديد ساعات العمل وتنظيم تقدير الأجور العادلة وكفالة صحة العمال وتأمينهم من الأخطار وتنظيم حقهم في الراحة الأسبوعية وفي الأجازات السنوية بأجر». ليس صحيحا إذن أن مشروع دستور 1954 الذي وصفه ناصريون متشددون بأنه دستور الباشاوات قد تجاهل أن مصر قد ثارت، وليس صحيحا أنه قد ألقي في صندوق القمامة لأنه كان يقوم علي ديمقراطية تقليدية تنحاز إلي الحرية السياسية علي حساب الحرية الاجتماعية، فكان لابد أن يهمله مجلس قيادة الثورة ليحل محله دستور 1956 الذي جاء تعبيرا عن ديمقراطية جديدة – وهو مصطلح ماركسي يعود فضل ابتكاره إلي الزعيم الصيني «ماو تسي تونج» تحتفي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي بدونها فليست هناك أية حرية.