"التخشيبة" في معجم المعانى الجامع، جمعها تخشيبات وتخاشيبُ، وهى اسم مرَّة من خشَّبَ، ومعناها كوخ من الخشب أي جلس الحارسُ أمام مبنى السفارة في تخشيبة، هو وضَعه في التخشيبة أي وضعه في السجن أو الحَجْز، أما "التخشيل" هو الذل والاحتقار. والصورة الذهنية للتخشيبة ومفهومها الراسخ في الشارع المصرى، كما رصدتها عيون السينما هي المرادف الحقيقى للإهانة والانتهاك والتعذيب والشذوذ والتحرش والسرقة أيضا. ولا شك أن سينما بلا واقع يعنى أفلاما بلا روح، وكثيرًا ماقدم الفن صورًا واقعية تؤرخ لحال المصريين، على مدى فترات زمنية مختلفة، بل إن ظروف المجتمع يمكن رصدها من خلال الأعمال الفنية، كل ما عليك فقط متابعة بعض الأفلام لتتعرف على مجتمع ما. بين المشاهد المختلفة، تجد دومًا عادات وتقاليد هذا المجتمع ظاهرة بشدة، حتى وإن كان فيلم «أكشن»، يمكن الوقوف على لغة أهل تلك الأرض خلال فترة زمنية محددة، وتكتشف الفوارق بين فترة وأخرى، وترصد كل تغيير فرض نفسه على شكل المدن وشوارعها، وأزمات المجتمع المادية والاقتصادية ووضعه الثقافي. في مصر مجرد رصد فترة زمنية محدودة يعطيك انحدارًا حاليًا عن الماضي، وأن ما يعيشه المصريون الآن أسوأ مما كان أجدادهم يعيشون فيه، فالمشكلات أكثر والأوضاع أسوأ والشوارع أصبحت مملوءة بالقمامة، حتى المعاملات بين أفراد الشعب أصبحت أكثر عنفًا، ولم يعد هناك من يحترم العادات والتقاليد، وكل ذلك انعكس على الفن والذوق العام في مصر. السينما المصرية لم تختلف كثيرًا عن الواقع في الشارع، فمنذ دخول هذا الاختراع إلى مصر، احتفظت الأعمال السينمائية لنفسها بمكانة التعبير عن كل ما هو مصرى «الشوارع، الحارات، العادات والتقاليد، المصالح الحكومية، الأسواق، لغة الشارع، الشرطة، الجيش»، كل شيء تراه في شرائط السينما. «التخشيبة» الموجودة في أقسام الشرطة، واحدة من أبرز اللقطات المتداولة في الأفلام، والتي شهدت تطورًا كبيرًا، منذ ظهورها في السينما المصرية، خمسينيات القرن الماضى ولا تزال مستمرة حتى اليوم، إذ كانت البداية ظهورها ب«شياكة» ومظهرا يبهر المشاهدين، ولأن السينما تعبر عن الواقع فإن تطور مشاهد «التخشيبة» بالسينما كان معبرًا عن الواقع على مدى عشرات السنين. بداية خمسينيات القرن الماضي، ظهرت «التخشيبة» وقت الحكم الملكى وحتى بعد ثورة 23 يوليو، وبدت مكانًا آدميًا نظيفًا يصلح لأن يكون مكانا للاحتجاز المؤقت في قسم الشرطة، مثل فيلم «المليونير»، الذي ظهر فيه إسماعيل ياسين بشخصيتين هما «جميز» و«عاصم الإسترليني»، حيث استغل كل منهما الشبه الكبير بينهما ليحل الأول مكان الثاني، بعد اتفاق بينهما ويدير أعماله ومصانعه ويعيش في قصره الكبير، بينما يدخل الثانى مكانه «التخشيبة». وفى الوقت الذي يقضى فيه «جميز» وقته محاولًا حل المشكلات التي تركها له «عاصم الإسترليني»، كان الأخير يقضى معظم مشاهده وراء القضبان، وهنا تظهر «التخشيبة» مكانًا آدميًا يحترم المحتجزين، صحيح أنه ليس قصرًا لكن حجرة بها فتحة للتهوية، تتخللها قضبان، ولا يوجد بها 100 شخص، بل لا يتجاوز العدد محتجزين اثنين مثلا، ما يوضح كذلك أن الجرائم في ذلك الوقت كانت أقل كثيرًا، وبالتبعية مساحة واسعة لوجود حقوق للإنسان المصري، التي كان يتمتع بها كل من يدخل «التخشيبة» آنذاك، كموقع مؤقت لحين الانتهاء من التحقيقات. ظهرت التخشيبة بنفس هذا المظهر مع اختلاف طفيف في أفلام أخرى، فربما يكون بها عدد من الأشخاص لكنَّ كلًا منهم يظل في حاله، ولم تكن البلطجة داخل التخشيبة قد ظهرت بعد، ولا حتى ظاهرة المخبرين المتخفين في زى متهمين كانوا قد ظهروا في ذلك الوقت، ويعتبر إسماعيل ياسين أكثر الفنانين الذين كانت تظهر الزنزانة في أعمالهم، ولعل مشهد «التخشيبة» في فيلم «ابن حميدو» الذي ظهر خلاله مع أحمد رمزى يوضح وضعها في ذلك الوقت. يدخل ابن حميدو وحسن بطلا الفيلم، حجرة واسعة والتي من المفترض أنها التخشيبة، ويوجد بها نحو 5 أشخاص كل منهم متكئ على أحد جانبيه دون اكتراث ليلقى «رمزي» السلام عليهم ويردون في هدوء ودون فرد عضلات أو افتعال مشكلات. وفى فترة الخمسينيات، استطاع عدد من فناني الزمن الجميل كالراحل فؤاد المهندس تجسيد ما يدور داخل التخشيبة بشكل كوميدى ساخر دون مساءلة قانونية في سلاسل أفلامه، أظهر من خلالها شخصية كبير الفتوات داخل التخشيبة الذي يخضع البلطجية لتنفيذ أوامره، وأيضا ما قدمه الفنان إسماعيل ياسين من مشاهد التحرش والخناقات بين البلطجية والمساجين داخل التخشيبة في مشاهد فيلم "إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة" عام 1955 للمخرج حمادة عبد الوهاب، والمؤلف أبو السعود الإبيارى. مشهد «التخشيبة» ظل ثابتًا على هذا الشكل بتغييرات طفيفة حتى وصل إلى منتصف السبعينيات، ومع انتشار المعتقلات وتوتر الحياة السياسية، ركزت الأفلام في قصصها على الاهتمام بكل ما هو بعيد عن السياسة والحكومة، حتى أنها وصفت بالفترة الأسوأ في تاريخ السينما المصرية، لكن هذا لم يمنع بعض الأفلام من تجاوز الخطوط الحمراء والتحدث عن التجاوزات الأمنية. أبرز الأفلام التي جسدت هذا الواقع، فيلم «الكرنك» الذي تناول ظاهرة المعتقلات والاعتقال العشوائى وتوحش النظام الأمني، ورغم أنه لم يظهر التخشيبة بل المعتقلات، وبعيدًا عن التعذيب كان المعتقل مكانا أفضل وأكثر رقيًا من «التخشيبة» في الوقت الحالي، حتى إن المعتقل كان يخرج من زنزانته ليدخل الحمام في مكان آخر، وكانت زنزانته مكانًا آدميًا إلى حد ما. كما ظهرت التخشيبة داخل أقسام الشرطة بشكل صريح في عدد من الأفلام الأخرى، لعل أبرزها فيلم «المذنبون»، الذي يوضح التطور الرهيب الذي شهدته «التخشيبة»، سبعينيات القرن الماضي، مع زيادة التوحش الأمني، ففى الفيلم تموت الممثلة الشهيرة وتدور الشكوك حول كل من كانوا معها ليلة مقتلها، وبالطبع في فيلم مثل ذلك يظهر مشهد التخشيبة كثيرًا. ولعل أبرز مشاهد «المذنبون» داخل التخشيبة، كان للفنان عماد حمدى عندما دخل الزنزانة للمرة الأولى كمتهم أول بقتلها، ليجد نفسه في حجرة كبيرة قد تكون مساحتها 5 أمتار في 10 أمتار، ولكن يوجد بها أكثر من 60 شخصًا، ما يوضح الفرق بين الخمسينيات والسبعينيات ويوضح زيادة عدد الجرائم، كما أنه يتعرض للسرقة بالإكراه بمجرد أن يدخل الزنزانة من جانب مسجونين أقدم، ورغم أن الشاويش يجلس بجانب الباب الحديدى الذي يشبه القفص، فإنه لا يحرك ساكنًا لاستغاثات عماد حمدي، ما يوضح الفرق الكبير بين التعامل الشرطى خلال الفترتين أيضًا. استمر الأمر على هذا الحال، وظهرت التخشيبة بهذا الشكل حتى التسعينيات، وزاد الأمر سوءًا مع بداية الألفية الجديدة، فالتخشيبة أصبحت قطعة من جهنم، مكانًا سيئًا جدًا، ضيقًا بشدة، لا مكان للتهوية، والكثير من الأشخاص بداخله، ظهر ذلك في أفلام مثل «ضد الحكومة»، «النوم في العسل». أبرع الأعمال التي رسمت الصورة الكاملة لما وصل إليه حال الأقسام والتخشيبة الملحقة بها، هو فيلم «هي فوضى»، الذي قدمه خالد صالح ويوسف الشريف عام 2007، والذي يتناول قضية فساد أمناء الشرطة، فقد رسم صناع الفيلم صورة التخشيبة وما وصلت إليه بصورة بارعة، فهى تشبه «البير الغويط»، مكان مظلم تحت الأرض ليس به تهوية، يوجد بداخله أكثر من 100 شخص، منهم أشخاص قابعون في هذا المكان، منذ أسابيع وشهور بدون تهمة، ومنهم مخبرون، لا يوجد حمام وإنما الجميع يقوم بفعل ما يريد أمام الآخرين ولا بديل له عن ذلك، وأسعدهم هو من نام دون أن يلتف حول نفسه ووجد لنفسه مكانًا «يفرد» فيه جسده بشكل كامل، كل ذلك أوضح الصورة بشكل كامل للمشاهد الذي لم يستغرب كثيرًا من حال التخشيبة وتطوره منذ الخمسينيات وحتى اليوم. وانطلاقا من نظرية السينما مرآة الواقع، جسدت السينما المصرية على مدى تاريخها الفيلمى صورة الحَجْز -التخشيبة- داخل أقسام الشرطة على نحوين، الأول كوميدى ساخر، والثانى واقعى يرصد بصدق ما يحدث داخل جدران تلك الغرفة التي تخشى لها الآذان قبل العيون. مع نهاية السبعينيات كسر تابوه الخوف من انتقاد رجال الأمن والشرطة وجسدت السينما لأول مرة التعذيب والمعتقلات السياسية، من خلال فيلمى "إحنا بتوع الأتوبيس -1979" لحسين كمال وفيلم "الكرنك-1975" لعلى بدرخان، وبعدها عرفت سينما الثمانينيات بالواقعية الجديدة والتي رصدت عنف الشرطة وما يدور داخل أقسامها، فظهر عملان كبيران جدًا في تناول الشرطة وأمن الدولة، الأول هو "البريء" من إخراج عاطف الطيب عام 1986، الذي يتحدث لأول مرة في السينما عن عالم الأمن المركزي. أما الفيلم الآخر فهو "زوجة رجل مهم" من إخراج محمد خان 1987، الفيلم عبارة عن بورتريه يتتبع فيه محمد خان وكاتب السيناريو رءوف توفيق تحول ضابط الشرطة "هشام" من شخص عادى وطبيعى إلى شخص متسلط وعنيف ومهووس بالسلطة. ولعل أبرز الأفلام السينمائية التي رصدت مجتمع "التخشيبة" بشكل واقعى، هو فيلم "التخشيبة"- 1984، للمخرج الكبير عاطف الطيب، والكاتب وحيد حامد، وبطولة الفنانة نبيلة عبيد والفنان الراحل أحمد زكى. ولخص وحيد حامد ما يدور داخل التخشيبة في الحوار الذي دار بين إحدى فتيات الليل المقبوض عليها والدكتورة آمال –نبيلة عبيد- " مالاقيش معاك سيجارة يا أختى" وترد الدكتورة وهى غارقة في البكاء والخوف الهستيرى مما ينتظرها داخل تلك الغرفة قائلة: "لا..لا..لا" لتقول لها إحداهن: "باين عليك بنت ذوات.. دلوقتى تدخلى معانا التخشيبة وهنريحك آخر راحة وربنا هيكرمنا آخر كرم". ويعد فيلم "هي فوضى" من أجرأ الأفلام التي سلطت الضوء على مجتمع أقسام الشرطة. وبالعودة إلى مرحلة أقدم من تاريخ السينما المصرية، ووفقا لقانون الرقابة سنة 1947، كأول قانون للتعامل مع المصنفات الفنية، نجد أن أحد بنوده الأساسية هي التركيز على إظهار صورة رجال الدولة بشكل لائق، خاصة رجال الجيش والشرطة والقضاء، كذلك لا يجوز التعرض لأنظمة البوليس والجيش أو تناول رجاله بالنقد، واستمر العمل بذلك القانون حتى ثورة يوليو 1952 مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة دون المساس بالبنود الخاصة برجال الدولة والنظام. ونجد أفلام تلك المرحلة تعطى صورة ذهنية إيجابية عن ضباط وأقسام الشرطة، كفيلم أربع بنات وضابط (أنور وجدى - 1945)، وحياة أو موت (كمال الشيخ - 1954)، والرجل الثانى (عز الدين ذو الفقار - 1959)، أو إسماعيل ياسين في البوليس السرى (فطين عبدالوهاب – 1959).