جلبابه المتواضع وطاقيته المتهالكة، رسمت للحاضرين صورة متعاطفة معه، داخل ندوة مناقشة رواية «بور فؤاد 1973.. وقائع سنوات الجمر» للكاتبه جمال حسان، لكن أمام استماعه بإنصات للكلمات المتدفقة على المكان، وورقته التي اتخذ منها مدونة لتسجيل نقاط بها، جذب أول سؤال له عن سر حضوره. من قلب ريف القليوبية، أمسك الفلاح الفصيح «صبحى قدح - 63 عامًا»، بطرف جلبابه، عازمًا الانطلاق إلى معرض القاهرة الدولى الكتاب، فهناك كان مهد نطقه «الألف والباء»، إلى أن اتخذ منه صديقًا يزوره كل عام، لما لا والحياة لم تمنحه زوجة أو ولدا يستند عليه، فكانت «القراءة والكتابة» خير صديق وقت الضيق. بعد رحلة اغتراب بين جدران العراق، جمع بها مالا مكنه من الإنفاق على زواج أخوته، عاد إلى مصر ليجد «قاهرتها» تتزين لمعرضها الدولى للكتاب عام 1990، فتوجه إلى هناك لتحوله السنوات إلى «زائر مخلص» للمعرض على امتداد 26 عامًا. في أول مرة، وطأت قدم «قدح» أرض المعرض، لم يكن يعرف شيئًا اسمه ندوات، لكن قلبه هداه إلى قاعة يحاضر بها الكاتب والناقد الفنى الدكتور سمير غريب، وكانت الندوة بعنوان «الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون»، أنصت الفلاح القليوبى جيدًا لكل ما يقال لكنه لم يفهم شيئًا، وما إن فُتح الباب للأسئلة، أمسك قلمًا بصعوبة وكتب رسالة للدكتور سمير، قال فيها: «أنا مواطن مصرى من قرى مصر وأريد أن أعرف معنى أكاديمية الفنون». ترك الناقد الفني، جميع الأسئلة وأمسك بورقة «قدح»، وطلب صاحب الورقة بالوقوف، حينها أيقن الدكتور سمير بشغف الرجل البسيط للتعليم، فساعده ومنحه مجموعة كتب ليقرأ فيها ويتعلم، وفى العام الثانى تكرر المشهد لكن هذه المرة مع الدكتور سمير سرحان، الكاتب والناقد الكبير، الذي كان يحرص على جلب الكتب المركونة في المخازن ويعطيها للزوار مجانًا، فكان قدح يحصل على بسيط المحتوى منها ويقرأ. الكلمات المتراصة لم تكن مجرد معلومات للقراءة بل كان الاستمتاع بشكل الحروف دافعًا قويًا لتعلم الخط العربي، وبالفعل توجه إلى مدرسة «الخط العربي» في طوخ، وقدم بها ليأخذ دبلوم خط عربي، لكن إدارة المدرسة رفضت لأنه يجب على الأقل أن يكون حاصلا على الشهادة الإعدادية، فبدأ طريقه بدخوله معهد قراءات شبرا بالخازندار، وظل به سنتين يدرس تجويد القرآن الكريم، ثم قام بعمل معادلة لتعادل الشهادة الإعدادية، وذهب مرة أخرى لمدرسة الخط، وبعد أربع سنوات حصل على دبلوم «خط عربي». «قدح» عاد مرة أخرى إلى معهد القراءات، وحصل على شهادة «عالية القراءات»، بعد أربع سنوات أخرى به، ليصبح الآن حاصل على دبلوم خط، ودبلوم تخصص في القراءات، وهى شهادة تعادل فوق المتوسط، ورغم ذلك يؤمن بأن يومه لا يمكن أن يمر دون كتاب، والآن صار أبرز أصدقائه الشاعر الكبير فاروق شوشة، وأبى القاسم الشابى، وأدونيس، وجمال الغيطانى، والباحث الدكتور حسن ظاظا، صداقة أساسها كتاب وليس لقاء بمؤلف. وعلى استحياء، سطر «عم صبحي» حملة كفلاح بسيط، متمنيًا الحصول على عمل يكسب منه رزق يومه فقط، فمنذ العودة من العراق، ليس أمامه سوى زراعة أراضى أهل قريته للحصول على مقابل بسيط يتجاوز به مرارة الأيام، مطالبا الرئيس عبدالفتاح السيسي بقطعة أرض صغيرة يعمل بها ويعيش من خيرها.