هل تذكرون ما حدث الأسبوع الماضي ؟ نعم، ذلك الذي حدث بخصوص الجوسقي الأمريكي، شبيهي أو قل توءمي الغريب الذي جاء لنا في حانة درب المهابيل ليحكي لنا أحداث ولاية ميسوري الأمريكية، إذن الحمد لله أنكم تذكرون، وطبعا أراكم وقد تعجبتم مثلي من الحالة التي كان عليها الجوسقي الأمريكي، خاصة وهو ينهي حديثه فجأة ويقفز من مكانه كأن عقربًا لدغه ويغادر الحانة وهو يعدنا باستكمال الحديث الأسبوع المقبل، وها هو الأسبوع المقبل قد جاء في موعده، وأظن أن الزمن هو أحد الأشياء القليلة المنضبطة في هذا العالم الغريب، فلم يحدث أن تخلف "بُكرة" عن المجيء، أو أعلن "الأسبوع المقبل" إضرابه عن الحركة وظل في مكانه لا يغادر "الأسبوع الماضي"، ولكننا نحن الذين نتخلف ولا نتحرك، لذلك جاء الأسبوع المقبل ولم يأت الجوسقي الأمريكي في موعده الذي ضربه لنا، فخيل إليَّ أنني يجب أن أبحث عنه في كل مكان، لعله تاه في دروب مدينتنا الفاضلة، أو أصيب بال "هسهس" عندما رأى كنوز حضارتنا، أو أصابه "الفالج" عندما رأى مشروع قناة السويس الجديد ورأى فيه جبروت المصري الذي لا يستعصي عليه شيء ولا تقف أمامه معضلة، ويكفينا فخرا أننا الذين "دهنا الهوا دوكو" ثم أثبت العلم الحديث بعد ذلك أنه بإمكان الإنسان تغيير لون الهواء الذي يحيط بنا من خلال "دوكو" خاص يتم استخلاصه من أشعة الشمس! المهم أنني أخذت معي عم مغاوري، صاحب الحانة، وصديقي الأثير أو الأنتيم بلغة الأجيال الجديدة "ابن حلزة" ومعهما فتوة حارتنا "صلعت بن ملعت" وأخذنا نجوب البلاد شرقا وغربا بحثا عن الجوسقي الأمريكي، ولا أخفي سرًا إن قلت إننا ذهبنا إلى كل مكان به آثار في مصر لعلنا نراه ولكننا لم نجده، إلى أن أخبرنا أحد "العيَّارين" من شطار مصر أن الجوسقي الأمريكي يعيش حاليا في واحة سيوه، نسيت أن أخبركم أن العيَّار هو بلسان مصر المملوكية هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على اللص الأريب، أو الذي نقول عنه بلهجتنا الحالية "بايع نفسه" أما الشطار فهم اللصوص الذين يشطرون جيوبكم ومتاعكم ليسلبوا ما فيها، ولكنني أصارحكم بأن مسألة وجود الجوسقي الأمريكي في واحة سيوه قد أثارت تعجبي، فما الذي دعاه إلى الذهاب إلى تلك الواحة التي لا يذهب إليها المصريون إلا في النادر، وأظن أن الذين يذهبون هناك عدد قليل من أوساط اجتماعية معينة، وحين وصلت أفكاري إلى هذا الحد جال في خاطري أن الجوسقي الأمريكي ترك جهاد بني وطنه في ولاية ميسوري ضد المستعمر الأوربي الأصفر، وقرر أن يركن إلى الراحة والدعة والحياة الناعمة، المهم أنني أخذت أصدقائي ذهبنا إلى واحة سيوة الهادئة الوادعة التي تجلب الراحة للأعصاب وهناك قابلنا الجوسقي الأمريكي وكان ما كان. أما الذي كان فهو أن الجوسقي الأمريكي قال لنا عندما رآنا: لا تظنوا أنني هربت منكم أو قررت المجيء إلى هنا من باب السياحة وتركت قومي يعانون شظف العيش، ولكنني أتيت إلى هذا المكان كي أتعلم منه وأنقل ثقافته إلى بلادي وبني قومي. فقال فتوتنا صلعت بن ملعت: يا عم الجوسقي الأمريكاني، هل تضحك علينا، أي ثاقفة تلك التي ستنقلها من هذا المكان البسيط إلى بلادك، إنهم يعيشون كما كان يعيش أجدادهم من آلاف السنين. رد عليه الجوسقي الأمريكي قائلا: وهذا هو ما نريد أن نتعلمه، كيف أن المصري يظل محتفظًا بأفكاره وعاداته وقيمه لا تتغير مهما تغيرت السنين، كيف يظل بعيدًا عن تأثير الأجانب له، بل إن الأجانب والغزاة هم الذين يتأثرون به ويذوبون فيه، ولكننا على الجانب الآخر تم تذويبنا في الغزاة الأوربيين، أصبحنا كأنهم هم، لا فرق بيننا، هذا طبعًا بعد أن أبادوا الملايين منا. قاطعه عم مغاوري قائلا: نريد أن نعرف باقي حكايتكم، لقد وقفت معنا عند قيام نائب الشريف الأمريكي في ولاية ميسوري بإطلاق النار على ذلك الشاب الزنجي المسكين، وقلت إن هذا الأمر كان من الممكن أن يمر مرور الكرام لولا أنه حدثت مفاجأة، فما هي هذه المفاجأة. قال الجوسقي الأمريكي وهو يرتكن بكتفه اليمنى إلى وسادة وثيرة بها نقوش عجيبة من نسيج تم غزله في واحة سيوة بذات الطريقة القديمة: ترونني الآن أجلس على هذه الحصيرة وأتكئ على هذه الوسادة، تلك حياة ساحرة لا مثيل لها، وبطريقة مشابهة مع اختلاف الظروف كان شابًا زنجيًا آخر يجلس القرفصاء في ناحية من المكان الذي قتل فيه صديقة الزنجي برصاصة غادرة من نائب الشريف، وأظنكم تعرفون أكرمكم الله لماذا يجلس الواحد منا القرفصاء في تلك الليالي المظلمة.... تنحنح الجوسقي الأمريكي ثم استأنف حديثه قائلا: كان يقضي حاجته، ولأن آفة الهاتف المحمول قد أصابت الدنيا بلوثة عقلية لذلك كان الشاب الزنجي الذي يقضي حاجته يمسك هاتفه ويطالع من خلاله صفحته في الفيس، وعندما سمع الحوار بين الشرطي وصديقه الزنجي حوَّل الهاتف إلى كاميرا فيديو كما تعرفون، ثم أدار الكاميرا إلى مشهد إطلاق النار، وسجل الشاب وهو يقضي حاجته كل شيء، ثم نشر المشهد على الفيس فورا، فطارت الرائحة في كل مكان، وسمع الناس أصوات الحادث الأليم، ولكن وبسرعة غريبة استطاعت المباحث الأمريكية ال"اف بي آي" حذف الفيديو، ولكن أحدا لم يستطع السيطرة على رد فعل الجماهير التي ثارت ثورة عارمة، وقد أغضبها أن الطب الشرعي الأمريكي نشر تقريرا طبيا قال فيه إن الشاب الزنجي القتيل مدمن مخدرات وأنه كان يحمل في يديه لفافة بها مسدس محلي الصنع من إنتاج المصانع الحربية الأمريكية ونوعه هو تسعة ملي "هِلوان". سألت الجوسقي الأمريكي: ولكن كيف ثارت الجماهير ؟ قال الجوسقي الأمريكي: من حارتنا الأمريكية "درب المهابيل"، حيث كنت أجلس دائمًا مع أهل الحارة في الحانة الخاصة بنا، واستطعت أن أحرك ثائرة أهل الحارة فانطلقوا يعبرون عن غضبهم، فقابلتهم الشرطة بعنف غريب، فثارت كل الولاية، وترتب على ذلك أن أصدر حاكم الولاية قرارا بسحب شرطة الولاية والاستعانة بالشرطة الفيدرالية، كما قرر الرئيس أوباما في إعادة تسليح الشرطة الأمريكية، وخرج ليلقي خطبة قال فيها: الآن فهمتكم... واعتذر عن عنف الشرطة، ولكن هذا الاعتذار لم يكف، فقد استمرت التظاهرات، صحيح أنها هدأت مؤخرا بعض الشيء إلا أنها كانت بمثابة إنذار لثورة قادمة، يبدو أن "الربيع الغربي" في الطريق أيها الأصدقاء. انتهت حكاية توءمي الجوسقي الأمريكي، وساد بيننا الصمت فترة، وكان الأمريكي ساعتها يتأمل السماء الصافية، فغرقنا كلنا في حالة تأمل صوفية، يا سبحان الله، ما هذه الدنيا الغريبة، فيها أشياء متشابهة تشابها غريبا، وكأن الزمن يعيد نفسه في بقعة أخرى من بقاع الأرض، لذلك فإنني أصدق تماما أن هناك مجموعة شمسية أخرى شمسها حمراء يعيش فيها بشر مثلنا تتشابه حياتهم مع حياتنا، أو أن هناك بعدا كونيا آخرا تتكرر فيه الأحداث التي تقع في حياتنا، وكأن هذا البعد هو مرآة الدنيا كلها، وحين وصلت إلى هذه الدرجة من الخواطر قطع الجوسقي الأمريكي الصمت قائلا: يقولون إن أوباما ذهب في هذه الأيام إلى جزر البهاما وهي بمثابة "شرم الشيخ" عندكم، ولكن البعض من باب التمايز يطلقون عليها "شرم القسيس" وآخر الأخبار التي وصلتني تفيد أن أوباما أرسل إلى المحامي المصري "فريد الديب" يسأله أن يترافع عنه فيما لو أحيل إلى المحاكمة ! أعجبنيأ