«1» كان مفترضا أن يكون أمس الجمعة هو اليوم المخصص لحملة «اشتر المصرى» لتشجيع المنتج المصرى، ومن ثم دفع الاقتصاد. لكنه أطل علينا بشعار «صنع فى مصر» بأقوى صوره وأكثرها حضورا فى أيامنا هذه. جيشنا الوطنى يقذف المعتصمين بالأطباق والحجارة من فوق المبانى المجاورة للاعتصام ثم يفضه بالقوة. لا أدرى وقت كتابة المقال إلام سيؤول الأمر، لكن ما رأينا منه كاف. طبعا الاعتصام سينفض دون أن تقدم حكومة الجنزورى «كاملة الصلاحيات» الحد الأدنى المنطقى، الذى يتفق عليه الجميع، البعض بصدق والبعض للتمويه -محاسبة قتلة المتظاهرين والمسؤولين الذين أعطوهم الأوامر فى شارع محمد محمود. المهرجون فى الإعلام سيستمرون فى الترويج لشعار فارغ اقتصاديا اسمه «اشتر المصرى»، بينما سيتغاضون عن كل شىء حولهم يرفع شعار «بيع المصرى». «بع المصرى» الذى طالب بمحاسبة المسؤولين عن مقتل أكثر من خمسين شابا؟ ألا يجب أن يكون الإنسان المصرى أهم «منتج» مصرى، لو صح حرصكم على البلد وعلى مستقبله؟ «2» صار فخر الإنتاج المصرى فى التاريخ الحديث، الثورة المصرية، فى وضع مقلق حقا. يستوجب الحذر والتفكير لا الخوف والولولة. كل ثورة فى الدنيا لها جانبان. جانب ميدانى يراه الناس ويستطيعون، إلى حد ما، تقييم مدى نجاحه أو فشله، ويستطيعون أن يضعوا له مدى زمنيا، وإلى جواره، متواريا، جانب ثقافى أصعب فى الإدراك. ثورتنا الميدانية لم تكتمل، لأن من تبقى من النظام القديم، وفى الصدارة منهم المجلس العسكرى، لم يدعوها تكتمل، بل نفذوا تراجعا تكتيكيا أتبعه حرب استنزاف أنهكت الثورة، وصولا إلى الانتخابات البرلمانية، وتلك وضعت ما تبقى من نصر ميدانى فى أيدى الإسلامجيين. ليست المشكلة اكتساح فصيل معين للانتخابات الأولى بعد الثورة، ما دام هذا الفصيل لا يملك إلى جانب النفوذ التشريعى القوة المسلحة. بالعكس، ارتفاع سقف التوقعات، وفساد التركة، يجعل الفصيل الفائز بأول انتخابات بعد الثورات فى موقف لا يحسد عليه. إنما المقلق فى الحالة المصرية أن الفصيل الفائز فصيل ذو أيديولوجية ثقافية معينة. وهو مدفوع بحماس الفرض الدينى لتعميم هذه الأيديولوجيا. مما يعنى أن الشق الثانى من الثورة، الثورة الثقافية، معرض هو الآخر للطعن فى مقتل. ليس هذا تفضيلا لأيديولوجيا معينة على غيرها، فلو كان الفريق الفائز يحمل أيديولوجية علمانية راديكالية، ويؤمن بتعميمها، لقلت عنه نفس الكلام. إنما «أنعى» هنا التعددية الثقافية التى رفعتها الثورة شعارا، والتى أظن أنها الضمانة للجميع على قدم المساواة. الوضع الآن كما يلى: المؤسسة التى تملك السلاح، تقف فى وجه الثورة الميدانية والإدارية، والمؤسسة التى سيكون بيدها السلطة التشريعية وجزء كبير من السلطة التنفيذية تعارض أى منحى لثورة ثقافية لا يتفق مع الاتجاه الذى تتبناه. فهى، إذ تعلن أنها لن تكون إقصائية فى المجال السياسى، فإنها تتفاخر بطبيعتها الإقصائية فى المجال الثقافى وتسميها بأسماء أخرى، كالمحافظة على الهوية والمحافظة على الأخلاق، أو تنفيذ أحكام الله. (والجانبان، على ما بينهما من اختلاف، يجاملان أحدهما الآخر «بالتطنيش» على مخالفاته). فى تصريح للمرشح الرئاسى الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل قال إن الإسلامجيين «لن يمنعوا حرية التعبير، لكنهم سيمنعون الليبراليين والعلمانيين من الانحلال الأخلاقى». تحت هذا التعبير الذى يشى بالحفاظ على الصلاح والتقوى وحسن الخلق، وما سوى ذلك من التعبيرات المحببة، تتخفى إرهاصاتُ القمع، وتعلن عن نفسها اللغةُ الفوقية الاستعلائية. الدولة ليست مسؤولة عن أخلاق الرعايا، بل المجتمع الذى ينتج القوانين هو الذى يفعل ذلك. وهل كان الليبراليون والعلمانيون يمشون فى الشارع عرايا قبل أن يأتى الإسلامجيون؟ إن فى مصر مشكلات أخلاقية عويصة، والفصائل السياسية من غير الإسلامجيين ليسوا مسؤولين عنها. مشكلات كالتحرش الجنسى، والغش، والرشوة. لكن السيد حازم صلاح أبو إسماعيل لا يتحدث عن تلك الأخلاق، بل يتحدث عن أخلاق خصومه السياسيين، وهذا مخيف ومقلق. لقد كتبت هنا مدافعا عن حق الإسلامجيين فى تشكيل الحكومة، وفى مقالى «بعبع الإسلامجيين»، عارضت أولئك الذين ولولوا ولطموا لفوز الإسلامجيين فى الانتخابات. لكن هذا لا يعنى عدم الحذر من أى محاولة لفرض (أكرر فرض) توجه ثقافى معين بطريقة فوقية، واستخدام هذا لقمع المخالفين سياسيا.