لا أعرف من أين ورثنا مهارة الحديث لمدة ساعات بكلام لا يمكن وصفه إلا بأنه كلام «فارغ». على مدار عشرة أشهر سمعنا تمجيدا للثورة وللشباب ولعظمة المصريين من كل المصادر، وهذا شىء محمود فى حد ذاته. لكن المحك الرئيسى لأى كلام يقال فى الدنيا هو النتائج أو حتى الفعل المباشر الملموس. من أين اعتقد كل هؤلاء المتكلمين أن ثمانية عشر يوما فى الشارع أرست الديمقراطية بمنتهى السهولة؟ يبدو أن تعريفاتنا للديمقراطية مختلفة تماما، ولا يكاد اثنان يتفقان عليها، فنتائج عشرة أشهر كافية أن تؤكد وهم هذه الفكرة، ناهيك عن تناوب اليأس والأمل على النفوس، وهما من أكثر الحالات إرهاقا. إن مجرد فرض محاكمات عسكرية على المدنيين، حتى لو كانوا «بلطجية»، لهو مفهوم مخالف للديمقراطية تماما، فالمدنى لا بد أن يُعرض أمام قاض طبيعى، وهو الذى يصدر عليه الحكم القانونى. طالب قطاع كبير من الشعب بإلغاء هذه المحاكمات، وكان الجزء الآخر يرى أن هذه هى الوسيلة الفعالة لعقاب المخالفين. مع قليل من التأمل لا بد أن يدرك الرافضون لإلغاء المحاكمات العسكرية أنها مناقضة تماما للديمقراطية. لم ينج أى من خضع للمحاكمات العسكرية من تعذيب وحشى وانتهاك مبالغ فيه فعلا ولفظا، وعلى الرغم من توثيق كل هذه الانتهاكات والأساليب التى لم تختلف كثيرا عن أساليب النظام السابق، اختار الكثيرون أن يغضوا الطرف عنها، وأن يمارسوا الإنكار الذاتى، أو أن يعتبروا أن هذا جزاء «البلطجى» فى أحسن الأحوال. لم يدرك هؤلاء الرافضون الاعتراف بوجود تعذيب أن هذا مناف تماما للديمقراطية، وأن التعذيب -كبداية قبل أى شىء- هو من سمات النظم القمعية، والأهم أنهم لم يدركوا حتى الآن أن ما يحدث من انتهاكات يمكن أن يصيب أى شخص. أما الموت المجانى فهذا هو الموجع. كيف تمكن المصريون من الاعتياد ببساطة وسهولة على فكرة الموت، وهو شعب يقدس الموت ويعتبره حدثا جللا؟ فى غمضة عين -حرفيا- وافق قطاع كبير من الشعب على فكرة القتل بالرصاص «وهى طريقة عسكرية بحتة»، والاختناق بدخان القنابل «أسلوب هتلر» والدهس بالمدرعات «لم أسمع عن هذا من قبل» على أساس أن هذا جزاء «المأجورين». حقا، هل هذا جزاء من يخالفك فى الرأى؟ وقد تدرجت المسألة، فكان فى البداية الإنكار التام أن هناك قتلى «شهداء»، ثم تطور الأمر فأصبح النقاش ينادى أن هناك قتلى من الشرطة، والغريب أن هذا لا يبرر قتلهم أيضا. فموت أى طرف لهو شىء مناف تماما للديمقراطية المنشودة. ثم نضج الأمر تماما وأصبح التليفزيون البائس مسؤولا تماما عن التحريض على القتل، بل وإظهار الفرحة العارمة كلما سقط المزيد من الشهداء، تماما كما كان الرومان يهللون عندما يفتك الأسد بالمسيحى فى الحلبة «كان ذلك فى القرون الوسطى». بكل هذه الدماء والجروح والآلام التى لم تلتئم «وسيحتاج الأمر إلى وقت طويل»، أسهمت أصوات شيوخ وقساوسة فى تقسيم المجتمع إلى ليبرالى وإخوانى وقبطى، واستجاب العديد إلى ذلك. فاعتبر كل طرف أن الآخر هو العدو. لم يدرك أى طرف أن المسألة ليست إلا توجهآ سياسيآ لا علاقة له بالمعتقد الدينى، لكن هذا ما فعله بنا تعليم وثقافة مبارك. لم تبذل السلطة العسكرية أى مجهود لفض هذا الاشتباك، بل أصرت أن تعقد الانتخابات على هذه الدماء والعداوات، لتنتهى أسطورة التسامح، التى ظل العديد من المحللين السياسيين يتغنون بها على مدار عقود. من الطبيعى أن تتنافس كل الفصائل على مقاعد البرلمان، لكن ذلك على أساس برامج سياسية بعينها. فقط فى الأنظمة المستبدة القمعية يحدث التنافس على أساس الترويج لفكرة المعتقد الدينى. هل هذه هى الديمقراطية التى حلمنا بها؟ أيا كان شكل البرلمان القادم -وهو آخر الهموم- لا بد أن نعمل على إزاحة هذه العداوات بقدر المستطاع، حتى لا نضطر فى النهاية أن نقول «آسفين يا ثورة». ربما ينبغى أن نتوقف قليلا عن «الكلام الفارغ» لنتمكن من النظر إلى الجوهر لا القشرة الخارجية، التى لا تسمن ولا تغنى من جوع للديمقراطية.