بعد دقائق من التوصل إلى هدنة لالتقاط الأنفاس، وبين ذهول الواقفين أمام نقطة المواجهة بين الشرطة والثوار عند التقاء شارع محمد محمود بميدان التحرير، انطلق سرير طبى ذو عجلات مخترقا صفوف المتظاهرين، يدفعه شابان، يرتدى كل منهما بدلة رياضية بيضاء فاخرة. على متنه يجلس رجل يرتدى بيجامة زرقاء، ويستند بظهره ويمدد ساقيه. أخرج الرجل مدفعا رشاشا من تحت الغطاء وأطلق زخات متتالية من رصاصاته، لتحصد أرواح المتظاهرين الذين تناثروا حوله فى دائرة من القتلى والمصابين. بعد لحظات من الفزع والجرى والتدافع فى كل الاتجاهات، ارتفع صوت مروحية يتدلى منها سلك ينتهى بخطافين معدنيين. فى عجالة ثبت الشابان الخطافين فى طرفى السرير المعدنى وجلس كل منهما عليه من ناحية مدليا ساقيه. بإشارة من يد القاتل المسلح ارتفعت المروحية، لتنطلق بعدها الصرخات والحجارة التى يقذفها المتظاهرون، التى لا تطول السرير بل تسقط عليهم لتجرح المزيد من الأبرياء. حدث هذا بينما كان الرجال الثلاثة يضحكون ويسددون إشارات بذيئة بأصابعهم نحو المتظاهرين المذهولين. خرج لواء مهيب فى نشرة الأخبار، وأدلى ببيان تأسف فيه لسقوط شهداء، وأشار إلى طرف ثالث مجهول ارتكب المذبحة مستعينا برجال يرتدون أقنعة لوجوه الرئيس المخلوع وولديه! هذه الحكاية ليست خيالية تماما، لأنها تمثل تفسيرا أمينا لواقعنا. فما دام أن مبارك ما زال يمارس قمعنا بجهازه الأمنى بحماية من يديرون شؤون البلاد، إذن يمكننا القول إنه قتلنا بنفسه. أيها المواطنون الواقفون على حافة المذابح اليومية، لن تستعيدوا أمنكم واحترام حقوقكم التى تقرها الأديان والمواثيق الدولية إلا بإعادة بناء وزارة داخلية جديدة، تتخلى عن عقيدة حماية الأنظمة المستبدة التى تمنح ضباطها مكاسب مادية واجتماعية لا يستحقونها، وتعتمد على تصعيد وترقية أسوأ عناصرها ممن يظهرون استعدادهم لارتكاب كل التجاوزات غير القانونية لسحق قوى المعارضة. لن تنصلح أحوالنا إلا بحكومة يشكلها مجلس تشريعى منتخب يراقب أداءها، وتقوم بتلبية مطالب الثورة، ومن أهمها شرطة عصرية تعتمد فى بنائها على مبادرة جادة كالتى قام بها باحثون وطنيون، لتصبح جهازا مدنيا يخدم أمن المواطن، ويرحمه من عسس وانكشارية عصور الظلمات. تأكد يا صديقى أن صوتك الانتخابى اليوم سيرحمك من نظام بائد يتمسك به المسنون ويعضون عليه بأطقم أسنانهم، بشرط أن لا تمنحه لأى تيار سياسى لا يؤمن بالديمقراطية، ويستخدمها كسلم يصل به إلى الحكم ليكسره بعد صعوده، ويصنع نظاما ديكتاتوريا يكمم الأفواه، ويحرم الآخرين من تداول السلطة، ليتمكن من الاستمرار فى الحكم، حتى لو فشل فى قيادة الوطن لمستقبل أفضل. لا تمنح صوتك لتيار لا يؤمن بالمساواة بين شركاء الوطن ولا يحترم حقوق الأقليات فى ممارسة شعائرها بحرية، ولا تنتخب من يعتقد أن المرأة عورة وإن احتشمت، وناقصة وإن تفوقت، ليحرمها من المساواة والمشاركة فى النهوض بالمجتمع، ولكنه فى نفس الوقت يسعى بانتهازية للحصول على صوتها فى الانتخابات! لا تنتخب من يحاول شراء صوتك بنقود أو بسلعة رخيصة، لأنه بلا شك لن يجتهد تحت قبة البرلمان لرفع مستوى معيشتك، بل سيعمل على أن تظل محتاجا إلى الصدقات، لكى يتمكن من شراء صوتك بنفس الثمن البخس فى الانتخابات القادمة! بالطبع لست أفتش فى «سرائرهم»، لكننى أستخدم عقلى وأنظر إلى دول أخرى قهرت أنظمتها الرجعية شعوبها وحرمتها من التعددية السياسية فتأخرت، بل وانقسم بعضها إلى دولتين. فى بداية وقوع أحداث قتل المتظاهرين السلميين فى ميدان التحرير، شعرت بالخزى وأنا أستمع لمداخلة تليفونية قام بها طبيب طلب قائمة من الأدوية والمستلزمات الطبية التى يحتاجونها فى مستشفاهم الميدانى، ليتمكنوا من علاج الجرحى.. يا للعار. هل يحدث أمر كهذا إلا فى بلد تديره سلطة احتلال؟ كيف لسلطة وطنية أن تقبل اغتيال شرطتها لشعبها الأعزل فى تظاهرة سلمية، وأن يقوم متظاهروها بعمل مستشفى ميدانى لعلاج مصابيهم؟ لقد تصورت أنهم فلسطينيون تقوم بقتلهم قوات الاحتلال الإسرائيلية! ليلتها اندلعت التصريحات المضحكة السخيفة على ألسنة المسؤولين الجهابذة. أحدهم قال إن الثوار يريدون اقتحام الداخلية من شارع محمد محمود! يا مثبت العقل والدين! لماذا يصرون على ذلك بينما كان شارع الشيخ ريحان بلا حماية وأقرب إلى هدفهم، وكان بإمكانهم التوغل منه إلى مسافة أبعد؟! التفسير أنهم كانوا يصدون هجوم الشرطة، ولم يرغبوا فى اقتحام الداخلية. جهبذ منفعل تحدث عن وجود طرف ثالث ولم يفسر لماذا لم تقبض الشرطة المظلومة على أحد من أفراده المعتدين؟ كاذب آخر أكد ببجاحة أن الشرطة لم تطلق الرصاص أو الخرطوش، ليفضحه تسجيل لضابط صغير مريض يطلق النار ويفقأ عيون المتظاهرين! شىء لا يصدق. ألا تستحيون أيها السادة؟ كيف تجمعون بين الغباء والضمائر الميتة؟ كلمة أوجهها إلى الدكتور الجنزورى. لن أقول لك انج بنفسك من التورط فى مهمة لن تستطيع إنجازها لعدم معرفتك بتفاصيل وظروف المرحلة القادمة التى لن تسعفك فيها خبراتك السابقة، ولكن لأن أصحاب القرار لن يسمحوا لك بذلك لإصرارهم على إعادة إنتاج النظام القديم. المسألة يا سيدى لا تكمن فى شخصك بل فى رغبة من يمسكون بمقاليد الأمور. لأنهم فى ما يبدو لا يريدون لنا أن نعيش فى دولة ديمقراطية تحترم حقوقنا وتسعى لتحقيق عدالة اجتماعية نستحقها. بالطبع لست أفتش فى «سرائرهم»، لكنهم لو صدقت نياتهم، لما تركوا مبارك «التخيلى» يهاجم التحرير، ويطلق الرصاص من «سريره» ليقتل المتظاهرين العزل، قبل أن تعيده مروحيتهم إلى محبسه «الافتراضى» ذى الخمسة نجوم!