إلام الخلف بينكم إلاما.. وهذى الضجة الكبرى علاما.. وفيم يكيد بعضكم لبعض.. وتبدون العداوة والخصاما.. تراميتم فقال الناس قوما.. إلى الخذلان أمرهم ترامى.. وأين الفوز.. لا مصر استقرت على حال ولا السودان داما! كتب شاعرنا الأكبر بعد المتنبى أحمد شوقى، هذه القصيدة سنة 1924م، وكأنها كتبت بالأمس أو اليوم، وكأنه مكتوب على «مصر» أن تخرج من «حفرة» لتقع فى «دحديرة»، وكأن حكام مصر -وشعبها أيضا- لم يتحضروا ولم يتقدموا ولم يتألموا.. وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. أريد أن أكتب عن السودان.. وما المانع أن أكتب عن نصفنا الجنوبى.. ليس الصعيد ولكن السودان. عشت حياتى الصحفية وأنا أنادى بالوحدة أو التكامل مع السودان.. مع نصف الوطن الإفريقى النيلى.. ومنذ أربعين عاما أو تزيد تعرفت على الطيب صالح، وصلاح أحمد، ومحمود صالح، وازداد إيمانى بأهمية -بل بضرورة- أن نمد أيدينا جنوبا ونتصافح مع شعب من أطيب وأكرم شعوب الأرض «السودان».. بلد الأرض الخصبة والمياه الغزيرة والمراعى الواسعة.. والشعب الطيب. هؤلاء الثلاثة أحبوا مصر كما أحبوا السودان، وقضوا فيها ويقضون أزهى سنوات العمر.. وأحدهم متزوج بمصرية جعلت حياته معها سنوات من السعادة، وأنجبت الخلف الصالح، ويقيم اثنان منهم فى «مصر» بصفة دائمة تقريبا.. الطيب كان يقضى ثلاثة أشهر وأكثر فى مصر كل عام.. صلاح أحمد متيم بها.. محمود صالح شبه مقيم، وكنا نحن الأربعة ورجاء النقاش نمثل خماسيا مصريا سودانيا، ولا أظن أننى سأرى فى الباقى من عمرى -وهو قليل- سهرات أجمل من سهراتنا التى كانت تتم فى الأغلب فى منزلى المتواضع بحى المهندسين، وكان أكثر حديثنا ينصب على إمكانية التكامل، ويأخذنا محمود صالح فى جولة تاريخية اقتصادية أدبية، وهو يحمل دكتوراه فى الأدب، وماجستير فى مسرح «شكسبير»، كما أنه المسؤول عن مركز «الميرغنى الثقافى»، ورجل أعمال ناجح، ومحمود عثمان صالح عالم من المعرفة، خصوصا فى عملية التكامل بين السودان ومصر، ولو كان هو وزيرها لأنجز فى شهور ما عجزنا نحن، حتى الآن، عن تحقيقه بعد عشرات السنين من المحاولات الفاشلة، بفضل تقاعس المسؤولين، ومؤامرات الغرب لمنع قيام دولة كبرى على ضفاف النيل تطرد بقايا الاستعمار، الذى كان عسكريا ثم تحول فعليا إلى استعمار اقتصادى. إن الاقتصاد هو محرك التاريخ.. وهناك نظريات أخرى مثل الأديان والقادة الكبار والحروب وطبيعة المكان ونوع المناخ، لكن المحرك الحقيقى هو الاقتصاد. فلا أحد يتحرك من مكانه إلا بغرض الكسب والربح وتحقيق المصالح، خذ مشكلة البطالة مثلا: لماذا لا يسافر -ولا أقول يهاجر- بعض ملايين من العاطلين وعندنا نحو 10 ملايين عاطل؟ ولماذا لا يتحرك هؤلاء أو تقوم الحكومات بتحريكهم للسفر إلى السودان؟ لقد كان هناك مشروع لهذا الحراك.. ومات. ثم لماذا لا يذهب الفلاحون المصريون إلى السودان لزراعة الأرض الخصبة فى البلد الشقيق؟ وبدلا من استيراد القمح من كل مكان، نزرعه ونصدر منه. قس على هذا استيراد اللحم وغيره من المواد الغذائية. إن مصر تستطيع بالتكامل مع السودان أن توفر للشعبين حياة أخرى.. لقد كان هناك مشروع ومات. إن مصر منذ ثلاثين عاما تبحث عن مشروع قومى يجمع الناس عليه، ويتحمسون له ك«السد العالى» مثلا.. إن مشروع التكامل مع السودان يمثل مشروعا قوميا أكبر وأكثر فائدة من أى مشروع آخر.. وأتمنى لثورة يناير أن تضع هذا المشروع ضمن أولوياتها، فسوف يجمع عليه الناس هنا وهناك، وسيكفون عن الثرثرة وإضاعة الوقت فى ما يجب وما لا يجب. من مقاعد المتفرجين! أتاحت لى السن وقلة الحركة أن أجلس أمام التليفزيون أكثر.. ولن أتحدث عن ضحالة الموضوعات، وإذاعة أفلام مكررة يوميا على جميع المحطات، حتى إنك تجد فيلما معينا مثل «التجربة الدانماركية» مذاعا على ثلاث قنوات فى وقت واحد، لكن وسط الكثير من الأفلام المتوسطة القيمة لفت نظرى بقوة فيلم «ملك وكتابة»، بطولة النجم محمود حميدة، والممثلة المدهشة هند صبرى، ومن إخراج كاملة أبو ذكرى. ولأننى خريج معهد السيناريو، فقد أستوقفنى الفيلم وشاهدته بضع مرات، وفى كل مرة يزداد إعجابى بالسيناريو السلس والحوار الممتع والتمثيل المتقن والإخراج المدهش. إن كاملة أبو ذكرى ابنة زميلنا الراحل كمال أبو ذكرى، إضافة محترمة لقائمة المخرجين المصريين الكبار، لقد جعلت من قصة بسيطة فيلما مدهشا، ولست أتذكر اسم السيناريست،لكنه مبدع ورائع. والقصة بسيطة.. إنها تعالج الفارق بين النظرية والتطبيق، بين الفكر والواقع.. قصة الأستاذ الجامعى الذى يقوم بتدريس السينما لطلبة المعهد، وتشاء الظروف أن يقع فى حب طالبة من المعهد تأخذه إلى عالم الواقع السينمائى.. تأخذه إلى مطبخ الفيلم، وتدفعه إلى تمثيل مشهد بسيط لرجل بوليس يذهب مع قوة لتفتيش مكان.. إنه أستاذ فى التمثيل، لكن عندما يطلب منه تمثيل هذا المشهد البسيط يرتبك ولا يستطيع النطق أمام الكاميرا. ويعاد تصوير المشهد مرات ومرات حتى يستطيع فى النهاية أن يقول الكلمتين. ويقع الأستاذ الدكتور فى حب تلميذته الكومبارس هند صبرى، وتتغير حياته، ثم يكتشف أن فارق السن بينه وبين التلميذة الشقية واسع، وأنها على علاقة حب بزميلها خالد أبو النجا، ويقرر بشهامة ونبل الانسحاب ليترك التلميذة الجميلة تعيش قصة حبها مع شاب فى سنها. ويا سلام على محمود حميدة بقوامه الفارع وخطواته الثقيلة ووجهه الرجولى وهو يعبر عن أزمته التى تنتهى بالقرار الصحيح -وإن أحزننى وأحبطنى- لأنه قال لى: وانت كمان سيبك من الرومانسية المتأخرة.. فأنت تجاوزت سن الرومانسية.. وأقول له: حاضر يا سيدى.. بلاش منها.