لا يجوز أن ينشغل القلقون على مصير الانتخابات أن تذهب مساعيهم الانتخابية والدعائية أدراج الرياح، ببساطة لأن تجاوزات الأمن ضد المعتصمين السلميين فى التحرير فى نهار السبت 19 نوفمبر فرضت معضلة أخلاقية ومنطقية، يتعين معها إعادة النظر فى مواقف النخب السياسية الليبرالية والإسلامية على حد سواء، فقد انحازت غالبية الأحزاب القديمة والجديدة إلى المسار السياسى وحده لتغيير مصر، ولكن ما معنى عقد الانتخابات (والتى سوف تعقد غالبا)، وهى من المفترض أن تعبر عن إرادة الشعب فى وقت يتم فيه ضرب من يجرؤ على المعارضة من الأحرار الذين لا ينتظرون الإذن من قيادات أحزابهم للنزول إلى الميدان، وإن كانت صحوة المسار الثورى لا تنفى بالضرورة إمكانية إجراء الانتخاب نظريا، فالعنف فى التحرير معروف المصدر، ولم يندلع حتى ظهرت قوات الداخلية على السطح، لتستفز المعتصمين فى التحرير بالضرب والسحل والخرطوش، لينضم إليهم الآلاف فى ميادين مصر بأكملها، لأول مرة أقدر عدم التزام المصريين ببرامج تنظيم الأسرة، فهذا التضخم السكانى يتيح أكبر مخزون استراتيجى لمصر، وهو شبابها الواعى الملىء بالأمل والإصرار على تحقيق الحلم المصرى الذى نستحقه جميعا. من الواضح أن الحد الأدنى لمطالب ثوار يناير من إعادة هيكلة للأجهزة الأمنية لم يلق صدى باستثناء عقوبة العادلى وأعوانه على فشلهم فى التصدى لثورة يناير، وما أسفر عن ذلك من سقوط مؤسسة الرئاسة والشلة المقربة، ولا ينطوى ما تعلمته وزارة الداخلية من درس يناير على تجديد أدائها الخدمى، ليكون أكثر مهنية واحتراما لكرامة المواطن، بل بدلا من تغيير الكتالوج نجد وزارة الداخلية تريد الاستمرار فى المعادلة القديمة الواهية هذه المرة باستخدام أدوات أكثر تطورا وأكثر حداثة لتحافظ على أمن النظام والحكام بدلا من أمن الشعب، كما تعلمت القيادات الأمنية أن تنال قوات الأمن المركزى قسطا من الراحة بين الهجمات المتكررة على ثوار التحرير حتى لا تنهار تماما، ونستورد أحدث قنابل الغاز المسيل للدموع من أمريكا، لندمر بها المسار الديمقراطى الذى تدعمه أمريكا أيضا. تختلف اعتصامات التحرير هذه المرة عن المصادمات شبه الشهرية التى كانت تندلع على مدى الأسابيع الماضية فى مظهر أساسى: فالمطالب تتعدى حدود المعسكرات الأيديولوجية والفئوية والانتهازية، وتعود إلى الشعار الرئيسى للثورة «عيش حرية وكرامة إنسانية»، والمطالبة بإسقاط النظام الذى لم يسقط بعد، فالأحداث تؤكد سقوط الأقنعة سقوطا نهائيا لمن كان يتمنى أن يأتى فجر مصر الجديدة بالمسار السياسى وحده، وعلى مستوى المعادلة السياسية تكشف الأحداث الأخيرة عدم استيعاب المؤسسات السياسية، حكومة ومعارضة، لحركة الشعب الديناميكية الذى تصفه بالجهل والجمود، بل تلهث الأحزاب حتى الثورى منها وراء انفجار الغضب المفاجئ جراء الاعتداء على مئات المعتصمين وسط الصينية، بدلا من أن تراه دعما لها، ذلك الغضب التلقائى الذى يعلن فشل الوزارات والبرامج السياسية والأحزاب فى طرح بدائل سياسية تعطى أملا للشعب فى التغيير الحقيقى، لتسود مبادئ الكراسى الموسيقية بدلا عن الحرية والكرامة، وتظهر مهنة الحناجر الجهورية التى تدور مساء على استوديوهات الفضائيات، لتنظر وتؤكد وتشجب، كما كشفت خوف الأحزاب على مقاعدها الموعودة بين مطرقة الرغبة فى اكتساب الأصوات وسندان عدم الخروج على نص المعارضة المسموح به، حاليا ليس المجدى تقسيم التيارات، حسب توجهها الأيديولوجى، بل حسب معيارين آخرين هما أولا استنارتها فى مقابل انغلاقها، كما طرح علاء الأسوانى سابقا، وثانيا مدى مثاليتها ونزاهتها عن أى غرض فى مقابل انتهازيتها ومهادنتها فى مقابل بعض فتات السلطة، ووفقا لهذا التقسيم المركب نجد أن المعايير لا تتوافق وفقا للخطوط الأيديولوجية سواء ثنائية الإسلاميين والليبراليين. تفسر الأدبيات السياسية قمع الشعوب بخوف الحكام منهم، وبالفعل يتضح خوف النظام من الحشد الكبير يوم الجمعة 18 نوفمبر، لأنهم نسوا منظر هذه الحشود بعد المهاترات والانقسامات وصعود المسار السياسى وحده على حساب الثورى، كذلك تنطوى دلالة التوقيت قبيل الانتخابات على صيغة، مفادها «إما أن تقبلوا ما نقدمه كفتات شبه ديمقراطى وإصلاح فوقى وأن تخوضوا تجربة الانتخابات مرشحين وناخبين صاغرين حتى نصف نفسنا بالشرعية بعدها، وإما أن تروا الوجه الآخر من ترهيب وإذلال وتشويه للسمعة»، وثنائية الترغيب والترهيب الفجة ليست جديدة على النظام المصرى، بل آلية قديمة محفوظة. السؤال الآن ليس ما الذى يريده ثوار الميدان، فهم صرحاء ارتفعت حناجرهم بمطلب رئيسى لم يتحقق حتى الآن «الشعب يريد إسقاط النظام»، النظام لم يسقط، يقبع قلب النظام فى صندوق أسود لم تستطع القوى الثورية فتحه بعد، لنبدأ بعدها فى رسم خطة واضحة وملزمة للمرحلة الانتقالية، تتيح بعدها الالتفات لقضايا مصر، وكما صدقت توقعات د.البرادعى باستحالة استمرار النظام السابق فى عام 2010، ثم أكد استحالة بقاء الأوضاع الحالية أكثر من عام، هكذا كلى يقين أن النظام الحالى سوف يسقط لا محالة مهما أطلق من أكاذيب أو افتراءات.