وثيقة المبادئ الأساسية للدستور محلّك سر، تخرج من نفق لتدخل فى آخر. كل القوى تتصارع من أجل الظفر بها، الإسلاميون الذين يريدونها إسلامية، ينظمون اليوم مليونية ضدها، والقوى المدنية التى لا تريدها عسكرية ولا إسلامية، تنتفض لمواجهة العسكرة والأسلمة. الوثيقة محلّك سر، فبعد أن كان أولاً الصراع بين التيارات السياسية يتركز حول إصدار الوثيقة من عدمه، تحولت الخناقة حول السؤال: هل الوثيقة استرشادية أم مُلزِمة؟ ثم تحول الأمر إلى جدل اختصاصات المجلس الأعلى للقوات المسلحة ودورها فى مصر بعد الثورة. الحكومة التى تعانى ارتباكا واضحا، حيث يجتمع، وقت مثول الجريدة للطبع، ثلاثة من وزرائها، الدكتور على السلمى نائب رئيس الوزراء، والدكتور فخرى عبد النور وزير السياحة، والدكتور عماد أبو غازى وزير الثقافة، مع الفريق سامى عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة بخصوص وثيقة المبادئ الأساسية للدستور. تُرى ما الذى يسفر عنه هذا اللقاء؟ الأكيد أنه سيخرج بشىء لأن الأمور تزداد ضبابية. التيارات المدنية، التى يمثلها المجلس الوطنى، والجمعية الوطنية للتغير وممثلو القوى اليسارية والليبرالية وائتلاف شباب الثورة، وشخصيات وطنية، تعترض على الوثيقة، وقد شكلت لجنة لصياغة مقترحات حول الوثيقة، وأضافت فقرة تنص على «حظر مصادرة أو وقف وسائل الإعلام إلا بموجب حكم قضائى ولفترة محددة»، وذلك فى نهاية المادة «14»، فإذا بالوثيقة تعود لمشاورات التحالف الديمقراطى، المعبر عن الإخوان المسلمين، فيقترح حذفها تماما، ويبلغ السلمى فى اجتماع جرى قبل يومين. المفاجئ أن الوثيقة عادت أيضا إلى القوى المدنية، وقد حذفت منها جماعة الإخوان «التحالف الديمقراطى» المادة الثالثة والعشرين التى تنص على أن المبادئ الأساسية والحقوق والحريات العامة الواردة فى الوثيقة هى لصيقة بالمواطن ولا تقبل وقفا أو تعطيلا أو انتقاصا ولا يجوز لأى من سلطات الدولة ومؤسساتها أو لأى جماعات أو أفراد الإتيان بأى عمل يهدف أو يؤدى إلى إهدارها أو الانتقاص منها أو الإخلال بها. وفى ما يخص البندين «9» و«10»، فقد ذهبت الوثيقة باقتراح إنشاء مجلس للأمن القومى والوطنى يناقش تفاصيل ميزانية القوات المسلحة ويصدر تشكيلها واختصاصاتها بقانون، لكن بعد اجتماع التحالف الديمقراطى مع السلمى، ببند يبدو مائعا لكنه ينص على خصوصية شؤون القوات المسلحة عند مناقشتها، وهو ما يحذف ما تم اقتراحه من اختصاصات لمجلس الأمن القومى، ويجعل الأمر مفتوحا لما تراه الأغلبية فى البرلمان. المجلس الوطنى اقترح أيضا ملاحظات حول معايير اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، كان من أهمها ضرورة تحديد نسبة أعضاء الجمعية من داخل المجلسين، وضرورة رفع عبارة «لا تقتصر على مكونات الأغلبية البرلمانية فحسب»، ليصبح النص «جمعية توافقية تعبّر عن كل فئات الشعب وشرائحه وقواه الحية وتياراته واتجاهاته وكل مكوناته، بجانب ضرورة إدراج هذه المعايير فى الإعلان الدستورى القائم حتى يمكن للمحكمة الدستورية العليا رقابة القانون الصادر عن مجلس الشعب لتنظيم قواعد وإجراءات اختيار الجمعية التأسيسية من خلال مرجعية دستورية قائمة». جماعة الإخوان، بتحالفها الديمقراطى هذا، تخدع الجميع، وإذا كان بإمكانها أن تخدع بعض المصريين بعض الوقت، فليس بإمكانها أن تخدع كل المصريين كل الوقت. الجماعة التى تملأ الدنيا ضجيجا ضد وثيقة المبادئ الأساسية للدستور، وتشارك اليوم فى مليونية ضدها، كانت وافقت على نفس الوثيقة فى الثامن والعشرين من يونيو الماضى، أيام يحيى الجمل، نائب رئيس الوزراء السابق. الجماعة، التى تحشد وراءها قوى إسلامية، تحت اسم «التحالف الديمقراطى»، وقّعت بدم بارد، باسم هذا التحالف، على وثيقة المبادئ التى تعلن الحرب عليها اليوم. ليس هذا فحسب، بل إن الموافقة على الوثيقة جرت فى مقر حزب الحرية والعدالة، وبتوقيع الدكتور محمد سعد الكتاتنى أمين عام الحزب. «التحرير» تنفرد بنشر وثيقة رسمية، خرجت من مقر حزب الحرية والعدالة، إلى يحيى الجمل، تحت اسم «التحالف الديمقراطى من أجل مصر»، عبّر المشاركون عن رغبتهم فى توطيد التحالف الديمقراطى الذى تم إعلانه فى الاجتماع الذى عُقد فى 21 يونيو الماضى، واستمرار العمل من أجل توسيع نطاقه والحوار مع الأحزاب، التى لم تحضر الاجتماعين السابقين، بعد دعوتها إلى المشاركة فى بنائه، وأكدوا ضرورة التعاون من أجل استكمال أهداف الثورة... هذه العبارات المطّاطة تلتها عبارة قال نصها إن «هذا التحالف قد أثمر الاتفاق على وثيقة المبادئ الحاكمة للدستور القادم، مما يمكن اعتباره تجاوزا لأزمة (الدستور أم الانتخابات أولا)». الجماعة وافقت على الوثيقة التى ترفضها الآن ولا تخجل، بل تذهب إلى أكثر من هذا عندما تحشد المواطنين والقوى السياسية ضدها، معتبرة أن الوثيقة أثارت أزمة خطيرة فى المجتمع السياسى المصرى باحتوائها مواد تسلب السيادة من الشعب، وتكرس الديكتاتورية، وتمثل انقلابا على مبادئ ثورة 25 يناير وأهدافها، رغم أنها رأت قبل أشهر أن الوثيقة هى مخرج لأزمة الدستور أم الانتخابات أولا. القوى الإسلامية، الممثلة فى التحالف الديمقراطى، ترى أن الدكتور على السلمى، نائب رئيس الوزراء، هو أساس الأزمة حول الوثيقة، لكونه ليبراليا، ويهدف إلى إقصاء الإسلاميين عن تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، فى المقابل ترفض القوى المدنية واليسارية الوثيقة باعتبارها نكبة، على اعتبار أن الوثيقة تمثل محاولة من المجلس العسكرى لفرض وصاية على النظام الجديد، بأن يخلق دولة فوق الدولة، داعين إلى وحدة صف كل القوى الثورية لرفض طموحات الإسلاميين الذين يريدون وثيقة تمكّنهم من دولة إسلامية لا مدنية، وضد طموحات المجلس العسكرى الذى يريدها دولة عسكرية . المجلس الوطنى لم يكتفِ بهذا، بل إن اجتماعه أول من أمس، مع شخصيات عامة وقوى ثورية، أسفر عن تشكيل لجنة من 5 أشخاص من بين الحضور، تتولى صياغة تعديلات، تمهيدا لتقديمها للسلمى، واقترحت اللجنة فعلا تعديل المادة التاسعة من الوثيقة، لتنص على أن «الدولة وحدها هى التى تنشئ القوات المسلحة، وهى ملك للشعب، ومهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها، وأمنها، والحفاظ على وحدتها... والقوات المسلحة كباقى مؤسسات الدولة تلتزم بالضوابط الدستورية والتشريعية، وأن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع هو القائد العام لها». لم يكتفِ الإخوان بهذا الضجيج، بل إنهم يطمحون إلى تقييد حرية الصحافة، فقد أبلغوا السلمى برغبتهم فى حذف المادة «14» من الوثيقة، وهى تنص على أن حرية الصحافة والإعلام مكفولة، ولا تُمسّ، مما دفع المجلس الوطنى إلى اقتراح بتعديل المادة «14» لتنص على أن «حرية الرأى والتعبير وحرية الصحافة ووسائل الإعلام مكفولة، بما لا يمسّ الحياة الخاصة وحقوق الغير والمقومات الأساسية للمجتمع المصرى». ما تفعله الجماعة يعيدنا إلى أجواء الاستبداد يا مواطن!