يتسم الناس فى الغرب بحب للحيوانات لا حدود له، يبلغ أحيانا أن يوصى بعضهم بثروته بعد موته لكلب أو قطة! صحيح أن الثروة تؤول فعليا للحكومة، لكن صاحب الحيوان يموت وهو يشعر بالرضا. ويثير هذا دهشة البعض عندنا فيتساءل: كيف يكون هؤلاء الناس بكل هذا الحنان والرحمة مع القطط والكلاب وغيرها من ذوات الأربع، بشكل يصل إلى درجة أن يحبس الناس أنفاسهم طوال قيام قوات الدفاع المدنى بمحاولة إنزال قط عالق على شجرة، بينما كاميرات التليفزيون تنقل تفاصيل العملية لحظة بلحظة؟ كيف يكونون بكل هذه الرقة ورهافة المشاعر مع الحمام واليمام والبط والإوز، بينما لا يترددون فى دعم المجازر التى يتعرض لها الإنسان العربى فى فلسطين والعراق ولبنان؟ وكيف يمكنهم الاستمتاع بالحياة الهانئة الرغيدة بينما البؤساء الذين يموتون من شدة الجوع يملؤون العالم فى قاراته الخمس؟ لا أظن أن الإجابة صعبة.. ذلك أن حب الحيوانات والحدب عليها يمنح الإنسان شعورا بالرضا دون أن يكلفه شيئا، لكن تعاطفه مع إنسان مسحوق يقتضى تقاسم الرفاهية التى يحياها معه، وتعويضه عن الثروات التى نهبتها بلادُه من بلادِه! والأمر نفسه ينطبق على الأثرياء فى بلادنا الذين أخذوا عن الغرب الاهتمام بالحيوان باعتباره من سمات الإنسان المتحضر، فى الوقت الذى كوّن معظمهم ثروته من خلال السرقة والنهب! ومن الطبيعى أن الإنسانية الحقة كانت تقتضى من هؤلاء التعاطف مع بنى الإنسان والكف عن نهبهم.. لكنهم وجدوا التعاطف مع قطة أقل تكلفة بكثير، و لا أقصد بالطبع أن كل محبى الحيوانات لصوص، لكن أغلبهم مصابون بالشيزوفرينيا. وعلى الرغم من رغبتى فى أن أبدو متحضرا، فإن حاجزا ظل قائما بينى وبين القطط والكلاب منعنا من أن يحب بعضنا بعضا، ولم أفلح فى أثناء عيشى فى كندا فى التظاهر بحبهم. وأذكر أن جارا عجوزا متعجرفا كثير الثرثرة كان ينظر إلىّ بشك لأننى لا أقتنى أى حيوان، وقد تجرأ مرة وفاتحنى فى الموضوع مقترحا أن أذهب معه لمحل الحيوانات والطيور بآخر الشارع لأشترى كلبا أو قطة صغيرة أحصل بها على اعتراف السكان! لا أنسى أننى أفزعت الرجل عندما حكيت له حكاية أحمد فتحية زميلى فى المدرسة، الذى كان يتسلل خلف القطط الضالة فى الشارع، ويمسك الواحدة من ذيلها ثم يلفها فى الهواء بقوة قبل أن يطوحها ويتركها تطير لتسقط على أحد السائرين بالشارع! سألنى العجوز فى هلع: وهل أبلغت البوليس عنه؟ قلت: لا لم أبلغ البوليس. من بعدها لم يُلق الرجل علىّ السلام أبدا وصار يتجنبنى. الغريب أننى حكيت له قصة واحدة فقط ولم أخبره بحكايات أخرى من الطفولة، منها واحدة تتعلق بقطين كبيرين كان يملكهما جار لنا فقير ومعدم، ويشبه شخصية الكحيت الذى يرسمه مصطفى حسين. كان الرجل عاجزا عن إطعامهما، لهذا فقد أطلقهما فى المنور لتدبير أمرهما. ما كان يثير سخريتى مع أصحابى أنه كان يسمى واحدا منهما لوسى والآخر بوسى.. مع أن النظرة المتفحصة للقطين دفعتنا لاختيار اسمين آخرين لهما.. أحدهما، وكان شريرا ماكرا ينقض على الطعام فى مطابخ الجيران، أسميناه البتانونى.. على اسم مسجل خطر كان معروفا فى الحى فى ذلك الوقت، أما القط الآخر، فكان شديد الألاطة يمشى بتؤدة وتصدر عنه نظرات متعالية شبيهة بنظرات عبد السلام النابلسى وهو يطالع الناس فى تأفف، لذا أسميناه القط حشمت. لا أدرى موقف العجوز الكندى لو أننى حكيت له عن النهاية الفاجعة للقط بتانونى والقط حشمت على يد أم نجلاء جارتنا، وهو الذى لم يحتمل الحكاية البسيطة الأولى.. لا شك أنه كان سيطالب بترحيلى على أول طائرة رغم أننى كنت مجرد شاهد على ما حدث للقطين!