ثورة 25 يناير سارت عكس التيار. التيار الذى صنعه اليأس والعجز وأفرز الجماعات التى قامت بعمليات إرهابية باسم الإسلام.. سمّت نفسها جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية. أتذكر الآن مشهد عادل إمام عندما رفع بَلْطَة فى نهاية فيلم «الغول».. رفْع عادل إمام البلطة فى نهاية فيلم «الغول» هذه كانت بشارة العنف. هكذا ثارت الصحافة ضد مشهد النهاية فى «الغول».. اعتبرته محاكاة «إيجابية» للحظة اغتيال الرئيس السادات الذى قُتل فى مشهد تراجيدى بين جنوده وفى أثناء الاستعراض العسكرى السنوى فى ذكرى انتصار أكتوبر. القتلة من جماعات الإسلام السياسى أو الأصولية المسلحة أو غيرها من أوصاف تجمعت كلها الآن فى الوصف المختصر: الإرهابيين. لا علاقة للفيلم بهذه الجماعات، لكنه التقط ذبذبة فى المجتمع. ذبذبة حائرة بين رفض القتل والاضطرار إليه فى مجتمع ظالم، بين اعتبار القاتل نبيا للعدل ورفضه كقاتل.. إرهابى. ذبذبة حائرة بين الرغبة والقيمة.. القانون والغريزة. «الغول» عُرض فى 16 يونيو 1983، أى بعد أقل من عامين على اغتيال الرئيس. ويروى قصة انتقام صحفى من أحد ديناصورات المال والسلطة استطاع حماية ابنه من حبل المشنقة فى جريمة قتل ولم يكن حسب تتابع الحكاية أمام الصحفى إلا البلطة لينتقم بها من الجبار الذى انتصر على القانون. الفكرة مغرية دراميا، لأنها تقوم على انقلاب فى الصورة من مجرم إلى بطل، ومن قاتل إلى مخلِّص شعبى. دراما تتكرر منذ أن كان الحرافيش يهللون للفتوّة المنتصر. وعندما يزداد ظلم فتوّة ما وفساده يشجعون آخر يتوسّمون فيه العدل والنزاهة. «فتوّة عادل» يصعد على الأكتاف ويمارس قوة مطلقة تفتح بوابات المفسدة المطلقة. جمهور يشعر بالعجز وبانعدام القدرة على تغيير الأحوال، وبأن «الفتوّة المنتظر» هدية من السماء. هدية بؤس، لكنها بالنسبة إلى العاجزين هى كل الأمل فى توقيف آلة القوى الجبارة عند حدودها. الجماعات الإرهابية باسم الإسلام لعبت على فكرة الفتوة المنتقم قبل وبعد اغتيالها الرئيس السادات. هذه الجماعات روّجت صورتها بغواية «البطل الشعبى» المناهض لدولة الظلم. وهذا ما أنهته تماما ثورة 25 يناير، حين اكتشف المصريون طريقا آخر غير انتظار البطل. اكتشفوا طريقا لصناعتهم دولة حقيقية يتعاملون فيها باحترام وحرية وعدالة بعيدا عن صراع الفتوات على السلطة. التيارات التى لها أصل فى الإرهاب عاشت سنوات قهر فى السجون، وعندما انتصرت عليها قوات شرطة مبارك، كان هذا إيذانا بعصر استعباد الشرطة للشعب المصرى. فى 25 يناير انتهت فكرة انتظار البطل المخلِّص أو الفتوة التى روجت لها أدبيات سياسية ودعايات أيديولوجية. انتهت فكرة الفِرقة الناجية التى ستخلِّص مصر من شرورها. انتهت أفكار أمام ثورة وصفتها من اليوم الأول بأنها «ثورة المدينة» على نفسها. شباب الطبقة الوسطى، قاد اكتشاف المصريين شعبا آخر يعيش تحت ركام جمهوريات الخوف والفساد. المارد بكامل رقته ينتفض من تحت الرماد الثقيل، بنداء من عالم افتراضى، تمرد على الخطابات الجوفاء، والمرارات الفاقعة، والتوافقات المخزية، تنظيم افتراضى حوّل صفحات الشبكة الاجتماعية إلى ميدان للحرية، تفككت البلاغة الخشبية، وانتشرت ثقافة حرية لا تعترف بحواجز الإقصاء وكمائن التخوين وفذلكات الهزيمة الدائمة. المدينة فى تعددها، رجالا ونساء، محجبات وعصريات، ملتحين ومسيحيين، ملتزمين بالعبادات ومتمردين على القيم المحافِظة، نساء تدخن ورجالا يهتفون بالدعاء، لم يعد الدين مجرد ساتر وتعويذة، اقترب من لاهوت تحرير، والعلمانية لا تتحسس مسدسها كلما رأت جموع المصلين، قبول وقتى ربما، لكنه شكّل الجسم الذى لا يمكن للذاكرة أن تنساه، جسم اكتشف أجساد غيّبها القهر السياسى والاجتماعى، بهذه الأجساد دفعت مصر فاتورة.. عبورها إلى المستقبل.