وحين اجتمع بعض من الخزرج فى سقيفة بنى ساعدة، بين مساكنهم إلى الشمال الغربى من المسجد النبوى فى يثرب/المدينة، كان عزمهم أن يختاروا زعيمهم سعد بن عبادة خليفة للنبى. لا يبدو أنهم اعتزموا تنصيبه خليفة على دولة الإسلام، ولا يبدو أنهم كانوا مدركين هذا البعد السياسى. أغلب الظن أنهم أرادوا تنصيبه حاكما على المدينة. ربما ظنوا أن القرشيين الذين هاجروا إليهم قديما سوف يعودون إلى ديارهم، أو، ربما أرادوا أن يستبقوا محاولة القرشيين لحكم المدينة. لكن أبا بكر وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح سارعوا إلى هناك لاستدراك الأمر. خطب عماد الدولة الإسلامية عمر بن الخطاب فيهم خطابا مؤثرا طمأنهم وأعادهم إلى الشعور بعصبية الإسلام التى جمعتهم تحت لواء النبى، ثم قدم أبا بكر. كان هذا عاملا حاسما فى درء خلاف محتمل. لكن ثمة عاملين آخرين مهمين: فكون سعد بن عبادة من الخزرج جعل الأوس يقبلون بالبديل القرشى. وكون أبى بكر من عشيرة صغيرة من قريش -تيم- جعل الأنصار يطمئنون إلى أنه لن يجمع قوة السلطة مع قوة العشيرة، وجعل القرشيين من مختلف العشائر الصغيرة يقبلون به بلا قلق. لقد كان انتماؤه الأقلوى هنا عاملا مطمْئنا، طبعا إلى جانب فضله وسبقه فى الإسلام. وهو فضل يشاركه فيه رجلان آخران، عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب اللذان، على العكس، ينتميان إلى بيت عبد مناف الكبير العريق. أولهما من أبناء هاشم ذوى الفضل، والآخر من أبناء أمية ذوى المال والنفوذ. لقد حاول أبو سفيان بن حرب بن أمية أن يقنع ابن عمه عليا بن أبى طالب بأن يقدم نفسه، وكذا حاول العباس بن عبد المطلب أن يقنع ابن أخيه، كان كلاهما يريد أن تبقى خلافة النبوة فى بنى هاشم، فذاك يضمن السلطة لبنى عبد مناف، ويقربها لأقارب بنى هاشم من بنى أمية. لكن، وهذا لحكمة تاريخية وسياسية لا أشك أن الحكيمين أبا بكر وعمر أدركاها، لم تكن تلك فكرة صائبة، وثبت ذلك بالتجربة لاحقا. لاحظ أن أبا بكر استخلف بالاسم حليفه الأقلوى أيضا عمر بن الخطاب بن عدى. فى عهد هذين الخليفتين لم تضطرب الأمة فى صراع على السلطة (ثمة اضطرابات من نوع آخر، لكنها أقل خطرا مما حدث حين انتقلت الخلافة إلى فرد من بنى أمية). فحتى علىٌّ، رغم عدم رضاه عن اختيار أبى بكر ثم عمر، ظل صامتا، لأنه لم يشعر بخطر استئثار عشيرة ذات سلطة ومصالح سياسية وتجارية بالحكم، لكنه لم يصمت زمن عثمان بن عفان. لماذا أعيد ما نعرفه؟ لماذا قلت كل هذا؟ من أجل نقطة بسيطة: التاريخ يختلف تماما حين ننظر إليه من الحاضر إلى المستقبل عنه حين ننظر إليه من الحاضر إلى الماضى، فنحن الآن ندرس التاريخ وكأنه خط مستقيم مرسوم سلفا، وحتميا، ومرتبا بطريقة تلقائية. الإسلامجيون يوحون للناس بأن الأمور سارت كما كان مقدرا لها، تولى الأربعة ذوو الفضل الخلافة بترتيب الفضل. ذلك جوهر تفكيرهم السياسى -الحتمية. لكن الصحابة أنفسهم لم يكونوا ينظرون إلى الموضوع بهذا الشكل. ولو كان أحد يعلم بترتيب هذا الفضل لكانوا هم، ولما شهد التاريخ الإسلامى الخلافات، سواء التى حلّت بالحوار حين تولية أبى بكر، أو التى تعمقت بالدم بين بنى أمية من جهة وبنى هاشم (العباسيين والشيعة) من جهة. إنما كان التاريخ الإسلامى كغيره تاريخا للبشر، بإيمانهم وإخلاصهم وسعيهم إلى البناء، ولكن أيضا بعوامل بشرية أخرى تتكرر هنا وهناك، قديما والآن ومستقبلا، عوامل لن يكون المرء سياسيا مؤهلا للحكم لو لم يكن يعرف بها، ويدركها. توفى عمر بن الخطاب وقد سمى ستة ليختاروا من بينهم واحدا (ما عدا ابنه الذى كان وجوده للمشورة). بل وكان متشككا للغاية وخائفا على أمة الإسلام، وهو لا يدرى إن كان أىّ من الخمسة المحتملين يصلح للحكم أم لا. لم يكن فى حاضرهم، إذ ينظرون إلى المستقبل، قداسة وأمور ملزمة ومحسومة، كتلك التى يضفيها أهل الحاضر من معاصرينا، إذ ينظرون إلى ذلك الماضى. إن تاريخ الإسلام عظيم ببشريته، لا يظلمه إلا أولئك الذين يحولونه إلى كتاب تاريخ مطبوع وجاهز. ونحن الآن فى نقطة من الحاضر، ننظر إلى مستقبل الأمة المصرية. علينا أن نحذر ممن يفهمون التاريخ فهمًا خاطئا، لأن هذا أولى إشارات تخريب المستقبل.