إذا أقمنا فى مصر دولة على أساس دينى للمسلمين فى وجود الأقليات من الديانات الأخرى وألزمناهم بنظامنا وتشريعاتنا فعلينا أن نقبل فى الوقت نفسه بقيام دول أخرى على أساس دينى آخر يكون المسلمون فيها هم الأقلية وعليهم الالتزام بنظامهم وتشريعاتهم. ولذلك- فى رأيى- فإنه بنهاية عهد الأنبياء أصبح من حق الناس إنشاء دولتهم على أساس نظام سياسى حر يتوافق مع ظروف حياتهم وطلباتهم إلا أنه للأسف الشديد قد لجأ كثير من الحكام فى التاريخ إلى صبغ حكمهم بصبغة دينية تحت دعاوى الحاكمية لله والعصمة والقداسة فى حين أن العصمة والقداسة للأنبياء فقط وليس هناك ضمان أن يخرج الحاكم عن جادة الصواب ويضع عنواناً للاستبداد والإفساد، ولو راجعنا التاريخ الإسلامى من عهد بنى أمية وكذلك محاكم التفتيش وسيطرة الكنيسة فى القرن السابع عشر على أوروبا لوجدنا أكبر دليل على ذلك. بانتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى وانقطاع وحى السماء عن الأرض انتهت الدولة الدينية وبدأت مراسم الدولة المدنية بتولى أبى بكر الصديق الخلافة وما حدث فى واقعة سقيفة بنى ساعدة وحروب الردة وما أعقبها من الفتوحات والغزوات أكبر دليل على توطيد أركان الدولة المدنية ونقل أركانها لتحتل أركاناً أخرى من الإمبراطوريات المجاورة. نعود إلى حادثة سقيفة بنى ساعدة كأول نقطة فى تأسيس الدولة على أساس سياسى. ما إن توفى رسول الله (ص) وانشغل الصحابة فى تجهيزه حتى اجتمع الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة على اختيار سعد بن عبادة خليفة لرسول الله (ص) ووصل الأمر إلى عمر بن الخطاب (أن هذا الحى من الأنصار مع سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة قد انحازوا إليه فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم (سيرة ابن هشام) فذهب عمر إلى بيت الرسول وطلب أبابكر الصديق وقال له اخرج إليهم وترك على بن أبى طالب والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس وغيرهم لإنهاء إجراءات دفن الرسول (ص). والتقى أبوبكر الصديق وعمر وأبوعبيدة بن الجراح مع الأنصار واستعرض كل فريق نسبه وحسبه وفضله فى تأييده للإسلام وفضل كل فريق فى تدعيم الدعوة حتى اقترح الحباب بن المنذر «منا وزير ومنكم وزير»، عند ذلك هاج عمر بن الخطاب وقال: هيهات لا يجتمع اثنان فى قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمرها منهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين»، فقام الحباب بن المنذر وقال (يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقاله هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بسيوفكم دان لهذا الدين من دان)- لاحظ التحريض على إجلاء المهاجرين من المدينة- فقال أبو عبيدة بن الجراح- أمين الأمة- (يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غير وبدل) فقام بشر بن تعلبة الخزرجى فقال (ألا وإن محمداً من قريش وقومه أحق به وأولى والله لا أنازعهم فى هذا الأمر أبداً فاتقوا الله ولا تخالفوه) ثم قام أبوبكر وقال: يا معشر المسلمين هذا عمر وهذا أبوعبيدة فأيهما شئتم فبايعوه، فقال عمر وأبوعبيدة: والله لا نتولى هذا الأمر عليك، أبسط يدك نبايعك. وأقبل الناس يبايعون أبابكر. نلاحظ أن أبا بكر الصديق قال «يا معشر المسلمين هذا عمر وأبوعبيدة فأيهما شئتم فبايعوه» وهذا دليل على أن الرسول لم يوص بالخلافة له وأن الأنصار لو كانوا يعلمون ذلك لما وصل الأمر إلى التهديد بإجلاء المهاجرين عن المدينة- كذلك حروب الردة كان حولها خلاف أيضًا بين أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب فلم يكن مانعو الزكاة قد منعوها عن صرفها فى مصادرها لكنهم قد امتنعوا عن تقديمها للحاكم الجديد وقالوا فى ذلك إننا سوف نقوم بصرفها فى مصادرها بمعرفتنا لأهلينا وعشيرتنا حتى تستقر أمور البيعة كاملة. كل هذا يؤكد أن ما حدث بعد الرسول من حادثة سقيفة بنى ساعدة وكذلك حروب الردة أنشأت أول خيوط الدولة المدنية والعمل فيها باجتهاد تفرضه الظروف المحيطة بالحاكم وخلاف فى الرأى يحسمه فى كثير من الأحيان سيف السلطان فليس هناك وحى من السماء يلهم صاحبنا أو مدد من السماء يعززه ويوطد موقفه. لكنه يخطئ أو يصيب يضل ويضلل كل هذا وارد، لذلك فمحاولة إلباس الحكم صبغة دينية تؤدى إلى الطغيان والإفساد ولذلك فالدولة السياسية حين يحكمها دستور مرن يراعى التغيير حسب الظروف واختيار جيد لعناصر المجالس النيابية والتشريعية والشعبية ورقابة شعبية صارمة على الحاكم وفقاً لنظام ديمقراطى سليم وعزله وسحب الثقة منه إذا اقتضت الظروف وفق قواعد منظمة صالحة ورقابة شعبية وصحفية تراعى الأصول المهنية وشرفها كل ذلك يجعل أخطاء الحاكم محدودة بل نادرة الحدوث.