يقول الخليل -عليه السلام- «قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِله رَبِّ الْعَالَمِينَ » الأنعام 162، وكذلك العارف بالله، موهوب وقته كله لله، ولذا يقول الشبلى «أنتم أوقاتكم مقطوعة ووقتى ليس له طرفان». والعارف لا يعصى الله بنعمه، وهو أوثق بما فى يد الله منه بما فى يده، ولأنه ذاق طعم القناعة والرضا، فهو يلزم الحمد والشكر. أو كما قال ابن الخطاب -رضى الله عنه- «الشكر والصبر بعيران لا أبالى أيهما ركبت»، فهو مع الله دائما، وفى كل حال. والعارف -كما يرى ابن عجيبة- لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، أما أبو طالب المكى فيقول «من سكن إلى غير الله فهو من قلة معرفته بالله، ومن سكن إلى الله، فهو من قلة معرفته بدقائق مكر الله»، إذ إن أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه، ولذا يصفهم الحق بقوله «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ» المؤمنون 60. والعارف بالله يفارقه الخوف والرجاء، لأنهما سوطان يسوقان العبد إلى الحالة التى هو فيها بالذوق، فالعارف مات فى حق الدنيا، وفى حق كل ما يفارقه بالموت، وترفع عن الالتفات إلى الآخرة أيضا! ولذلك يقول أهل الطريق: الزاهد سيار، والعارف طيار! لخلو قلب العارف من كل شىء وتعلقه بمولاه، فمن ذاق عرف، ومن عرف لزم. ويقول ذو النون المصرى «العارف كل يوم أخشع لأنه كل ساعة أقرب»، وعندما سُئل الجنيد عن العارف، قال «لون الماء لون الإناء»، ولذلك العارفون بالله هم الملوك حقا. وثمة أحوال للخلق، ولا حال للعارف، لأنه محيت رسومه، وفنيت هويته أمام رؤيته لتجليات الحضور الإلهى، ولذلك يتميز العارف بالله بنوع من الإدراك، يختلف عن إدراك الإنسان العادى، إذ إن أكثر البشر عبيد للأوهام، وأما اتباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى، الذين أراهم الله الحق وقواهم على اتباعه. وإذا ترقى العارفون واستكملوا معراجهم الروحى، رأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس فى الوجود إلا الله تعالى، وأن «كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» القصص 88، لا أنه يصير هالكا فى وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا، لا يتصور إلا كذلك، فإن كل شىء إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته، فهو عدم محض، وهذه رؤية كبار المتصوفة. ولذلك يقول ابن عربى «إنى أقرب إلى الحق فى حال اتصافى بالعدم منى إليه فى حال اتصافى بالوجود، لما فى الوجود من الدعوى»، وهذه حقيقة وجودنا فى هذا العالم الفانى، فنحن عدم ظاهر! ولكن لن يدرك ذلك إلا أهل الحقيقة، ومن ثم يقول الحلاج «أسرارنا بكر لا يفتضها وهم واهم»، فجل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، ولكن «الذى من الله يسمع كلام الله» (إنجيل يوحنا.. الإصحاح الثامن 47).