ما يحدث فى تونس من تقدم فى بناء الدولة الحديثة.. يجعلنا ننظر إليها كثيرا مرة أخرى.. بعد أن نظرنا إليها وهى تخلع زين العابدين بن على بعد 23 عاما من الطغيان والاستبداد.. فمشى المصريون على طريقتهم، فخرجوا فى مظاهراتهم، رافعين شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، مستلهمين ما جرى فى تونس وغير مبالين بما كان يدعيه النظام وعصابته وموالسوه ومنافقوه وكتابه ومنظروه -وهم كثر- من أن «مصر مش تونس».. وأن «مبارك مش زين العابدين بن على».. كما يقول الآن الطاغية والجزار بشار الأسد من أن «سوريا مش ليبيا».. «لا يتعلمون أبدا أى دروس من التاريخ ومن الواقع الذى يحدث أمامهم». واستطاع الشعب المصرى فى ثورته أن يخلع مبارك وعصابته فى 18 يوما، وأجبره على أن يترك الحكم بعد أن تخلص من مشروع التوريث من اليوم الأول للخروج فى المظاهرات.. وهو المشروع الذى صرفوا عليه كثيرا.. وجندوا مئات كثيرة من أجله على مدى ما يقرب من 10سنوات. وليثبت الشعب المصرى كذب وضلال جماعة الجوقة الذين كانوا حول مبارك وابنه، وأقنعوه بأن مصر ليست تونس.. وهم الذين يتحولون الآن ويتحدثون وكأنهم شاركوا فى الثورة وحذروا منها، لكن النظام لم يسمع، لكنهم فى النهاية يعالجون موقفهم بوضعهم «السم فى العسل».. ولّا ينقطونا بسكاتهم أفضل.. لكن ماذا تقول عن أناس تربوا على كل الموائد.. فلا مانع عندهم من تغيير الأقنعة؟ وكان الموقف بعد الثورة على الأرض وفى الميدان أفضل كثيرا من الوضع فى تونس.. ويبشر ببناء دولة ديمقراطية حديثة ترفع رايات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية تبدأ تباشيرها فى المرحلة الانتقالية بوضع خريطة طريق واضحة المعالم تنفذها حكومة قوية تعى الوضع الجديد وتعمل على تنفيذ احتياجات الناس.. بعد التخلص من الفساد الذى كان يستأثر برصيد الدولة من المال العام الذى يمكن به بناء حد أدنى من الحياة الكريمة للمواطنين. لكن تم شد البلاد فى المرحلة الانتقالية إلى اتجاه آخر والدخول فى جدل غير مفيد فى قضايا لم تكن مطروحة فى أيام الثورة.. فكان الجميع متفقا على إلغاء الدستور الحالى ووضع دستور جديد.. ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بعد ذلك.. ليكتفى الذين يديرون البلاد وكانوا فى حالة ارتباك وجهل بالسياسة وجدلها «بترقيعات دستورية على بعض المواد التى طرحها النظام المخلوع كحل لإعادة الثقة به.. فى الوقت الذى لم يهتموا فيه بعودة الأمن، وكأن هناك حالة تواطؤ بين الجميع ومع عصابة النظام السابق التى ما زال لها أياد فى مناطق مهمة لتظل الفوضى منتشرة، ولعل اليأس يعم الناس -وهو لن يحدث- من الحصول على حقوقهم فى الحرية والعدالة والحياة الكريمة. فى الوقت نفسه تتصارع القوى التقليدية التى كان جميعها يشارك فى النظام المخلوع الديكور الديمقراطى الذى كان يدعيه لقطف ثمار الثورة قبل أن تنضج، محاولين الحصول على أى مكاسب من خلال الاتفاق وإرضاء الذين يديرون شؤون البلاد.. لينتج فى النهاية قانون مشوه للانتخابات توافق عليه هذه القوى.. إلا أنها تفاجأ بأنها لا تستطيع أن تعد قوائم على مستوى مصر كلها لخوض الانتخابات.. ومع هذا تسعى بكل ما تملك لفعل ذلك وضم فلول ينتمون إلى النظام المخلوع وحزبه الفاسد لكى يكتملوا ويحاولوا النجاح بهم فى الوقت الذى يدهسون فيه القوى الثورية الحقيقية التى كان لها الدور الأكبر فى تلك الثورة.. وهم الذين كانوا فى الناحية الأخرى.. وضد الخروج فى مظاهرات تطالب برحيل الحاكم. ولعل ما جرى فى تونس خلال الأشهر الأخيرة يعطينا دروسا مفيدة عن بناء الدولة.. فلم يتعجلوا حكاية الانتخابات فى المرحلة الانتقالية، وحدث جدل كبير بين القوى السياسية حول ذلك، لتجرى بعد ذلك، وباتفاق الجميع بعد 10 أشهر تقريبا من الثورة. وخلال تلك الفترة يتم وضع أسس يمشون عليها فى البناء الديمقراطى، تمهيدا للانتقال إلى المرحلة الثانية من تأسيس المجتمع بانتخاب الجمعية التأسيسية لوضع الدستور أولا.. فكان العزل السياسى لقيادات ووزراء بن على الذين أفسدوا فى الأرض.. وألغوا وزارة الإعلام التى كانت بوقا للنظام. وهى وزارة دائما تتحدث باسم المستبدين والأنظمة الشمولية وتمارس التضليل على الناس -وعملوا على تحرير الإعلام ووضع أسس فى تلك المرحلة- ونحن الذين أعدنا وزارة الإعلام بعد إلغائها!!- ودعوا الرقباء الدوليين لمراقبة انتخاباتهم. وتكون النتيجة فى النهاية انتخابات يفخر بها التوانسة أمام العالم.. وبداية حقيقية لبناء مجتمع حديث. ولعلنا نستفيد أيضا من حوارات القوى السياسية المختلفة بما فيها قوى الإسلام السياسى بعقليته المتفتحة على القوى الأخرى رغم الفوز بالأغلبية.. كله من أجل بناء مجتمع ديمقراطى حديث. فهل نتعلم أم نظل فى التكالب للحصول على المناصب والمنافع الشخصية؟