شهدت مصر فى تاريخها الانتخابى، لا سيما فى عهد مبارك، أبدع صور الغش والفساد الانتخابى. فساد مارسه القائمون على العملية الانتخابية، مثل تسويد الأوراق واستبدال الصناديق وغيرها. وفساد يمارسه المرشح نفسه بمنح الرشاوى الانتخابية يوم التصويت، والرشاوى الانتخابية التى تسبق عملية التصويت بفترة قد تطول أو تقصر، حسب الوقت المتاح والمجتمعات المستهدفة. ومن المأمول فى انتخاباتنا القادمة التخلص من غش المنظمين، ولكن يبدو أن التخلص من غش وتدليس وتزوير إرادة الناس من جانب المرشحين، ذلك ما لم يحن أوان التخلص منه بعد. ومن أعم وسائل التزوير والتدليس الانتخابى التى يستخدمها المرشحون (سابقا وحاليا وإلى أن يستفيق الناخبون)، وأوسعها انتشارا فى مصر، هو شراء الأصوات المنظم من خلال سماسرة متخصصين. كذلك المبالغة من جانب المرشحين فى الوجود الدينى والإفراط فى إظهار مدى التدين أمام الغير، وإسهابهم غير المسبوق فى العمل الخيرى الدينى مثل توزيع أموال وشنط رمضان ومآدب الطعام، وغيرها، وهذا العمل يبدأ مبكرا نسبيا. الشكل الآخر الذى يمارسه المرشح هو التضليل والنفاق، ويتمثل ذلك فى إعطاء الناخب معلومات مغلوطة حول ما يحدث وأهدافه، أو حول المرشحين المنافسين. وبالنسبة للانتخابات البرلمانية القادمة، فقد بدأ التدليس والتضليل منذ أوائل مارس مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية. فى تلك الصور يعتمد المرشح الراشى والمدلس على عاملين رئيسيين، وهما فقر وحاجة الناس من ناحية، وانتشار الأمية والجهل السياسى من ناحية أخرى. ويجتمع هذان العاملان للأسف فى نفس الفئات، وهذا إرث ستين عاما من تهميش الناس. إرث أسهم فيه الجميع! فقد التقت مصالح مرشحى النظام مع مصالح منافسيهم الرئيسيين على ضرورة إبقاء المواطن خارج العملية الانتخابية، بل خارج اللعبة السياسية كلها، مواطن قابل للانقياد تبعا لقدرة كل طرف منافس على ضخ أموال أكثر لشراء الأصوات أو استخدام خطاب أكثر ملاءمة للتدليس. فكان التوجه للتجمعات الفقيرة الأكثر تهميشا اقتصاديا وثقافيا. ومن أشهر من أبدع واستخدم وطور تلك الوسائل هم مرشحو الحزب الوطنى المنحل، ولكن ليس وحدهم ولكن نافستهم تيارات أخرى أهمها التيارات الدينية. وقد تبنى هؤلاء جميعا مبدأ «اطعم الفم تستح العين»، أو ربما يمكن تحريفه كاتفاق ملزم أخلاقيا (بصورة تفضى عليه ما ليس فيه) ليلتزم المرتشى بكلمة شرف!!! لذا نجد أن كوادر الحزب الوطنى مثلهم مثل كوادر التيارات الدينية، كانوا الأكثر وجودا فى الأحياء الشعبية، يقدمون الرشاوى حسب قدراتهم، أو يكذبون باسم حماية الدين، كممثلين وحيدين له. ونلاحظ أن أيا من تلك التيارات قد تطرق يوما إلى النهوض الاقتصادى وتنمية الناس، بحيث يخرجون من زمرة المتسولين والمرتشين ويتحررون من الفقر، حيث لم ينفقوا أموالهم فى إقامة مشروعات أو دعم مشروعات للناس أو تدريبهم وتأهيلهم للانخراط فى سوق العمل أقوياء أحرارا. كما أن هؤلاء «السياسيين» يحمون -بدأب- جهل الناس سياسيا، فلم يبادروا يوما فى تنظيم أى أنشطة لتوعية محايدة حول دور المجالس المنتخبة أو مسؤوليات عضو البرلمان، أو العلاقة المباشرة بين الانتخابات وتوفير حقوقهم. ليظل الناخبون تابعين لإرادة الغير، يتخلون عن أصواتهم، وبالتالى حقوقهم، مقابل أى فتات. يصور المزورون والمدلسون -بشكل تلفيقى- غشهم ورشاهم، بحيث يبدو تضامنا ودعما أخلاقيا!!!! وعلى رغم وضوح التناقض فى ما هو أخلاقى وما هو غش، فإن ما لا يجوز أخلاقيا ودينيا.. إنما هو مباح سياسيا لدى البعض. فتوزيع الطعام من أجل أصواتهم هو عمل مباح، توزيع المال حلال، توفير المواصلات والوجبات السريعة يوم التصويت موصى بها، وبالتالى الكذب والتضليل والتدليس هو من أعمال إعلاء مصالح الأمة. تخيل مشرعا جاء بالتزوير، نائب الأمة وممثل لمصالحها جاء بالتدليس واستغلال حاجة الناس وعوزهم؟ وقلة حيلتهم وبساطة وعيهم السياسى!!! وقد فعل المجلس العسكرى بنا خيرا بتحديده الانتخابات بمراحلها الثلاث، وبالتالى اندلاع «الحملات» مع عيد الأضحى المبارك، على المصريين جميعا إن شاء الله. لأن ذلك معناه أننا جميعا سنأكل لحمة على حساب صاحب المولد الانتخابى. لحمة وفتة هى الرمز الحقيقى الوحيد فى الانتخابات البرلمانية القادمة. فما بين بيع بعض التيارات والأحزاب اللحوم بأسعار زهيدة، وتوزيع المال، وموائد الطعام فى العيد والأيام التالية لحين انتهاء الانتخابات إن شاء الله، ستدخل لحمة الانتخابات جوفنا جميعا. عيد أضحى مبارك على المصريين جميعا، ولا نتمنى أن نضحى فى العيد إلا بالخروف، ومع حلول الانتخابات نصون ثورتنا وحقوقنا ومواطنينا وأن لا يتحول المصريون جميعا لرعية، ولن أقول خرافا.