برشقة صاروخية.. حزب الله يستهدف تجمع لقوات إسرائيلية في اللبونة    خالد الغندور: المصري يرفض خوض مبارياته على برج العرب ويحدد ملاعب بديله    إصابة 6 أشخاص إثر حادث انقلاب سيارة على طريق الإسكندرية الصحراوي    عاجل - تراجع كبير في أسعار الحديد والأسمنت اليوم.. فرصة ذهبية للحصول على خامات البناء بأسعار منخفضة    شعبة السيارات تكشف مفاجأة صادمة بشأن الأسعار بعد قرار البنك المركزي    التحالف الوطني يوسع آفاق التعاون الدولى من خلال زيارة دولة الإمارات    التوطين والتمكين.. مسؤولية الجميع    جودة عبد الخالق: أرفض التحول للدعم النقدي لعدم وجود ضمانة لاستقرار الأسعار    التلفزيون اللبناني: حزب الله استهدف إسرائيل بالمسيرات وأسقط قتلى وجرحى    إسرائيل تتهم حزب الله بمُهاجمتها من مواقع قرب مواقع قوات اليونيفل بجنوب لبنان    عمرو أديب يعلق على تهديد الدعم السريع بضرب السد العالي    المقاومة في بنان تُهدد بتحويل "حيفا" إلى كريات شمونة    هل يدرب جوارديولا منتخب إنجلترا فى المستقبل؟.. مدرب مانشستر سيتى يجيب    أسوشيتد برس: نتنياهو يدرس خطة لتفريغ شمال غزة من المدنيين وتجويع من يبقى    عاجل - "فلوسك في أمان".. طرح شهادة استثمار بعائد 35% من البنك الأهلي وبنك مصر "حقيقة أم شائعة؟"    وصول بعثة منتخب مصر إلى موريتانيا قبل لقاء الثلاثاء (صور)    ملف رياضة مصراوي.. عرض جديد لمرموش.. قائمة الأهلي للسوبر.. وأول منتخب يتأهل لنهائيات أفريقيا    جوارديولا يجيب عن السؤال الصعب بشأن الفريق الذي لا يتمنى مواجهته    علي فرج: أخي منعني من اعتزال الإسكواش.. والتجنيس بالنسبة لي «مستحيل»    الرمادى: القندوسى لن يتأثر بالضغوط فى السوبر.. والزمالك لم يفاوضنا لضم بيكهام    عاجل - توقعات بارتفاع أسعار الذهب إلى 5000 جنيه للجرام.. فهل هي حقيقة أم مجرد شائعة؟    إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بالأسلحة البيضاء بسوهاج    ضبط طن أسماك وكبدة منتهية الصلاحية بكفر الشيخ    آثار على ملابس «تلميذ إبتدائي» تكشف جريمة مدرس رياضيات في المقطم.. ما القصة؟    عمرو أديب تعليقًا على حادث قطار المنيا: "في حاجة غلط"    بعد أزمة أمواله، طارق الشناوي يوجه رسالة قوية ل عمر كمال    بعد تعرضها للانتقادات.. هكذا دافعت إلهام شاهين عن ابنة شقيقتها    بالفيديو.. سميحة أيوب تناشد الرئيس السيسي بوقف قرار إزالة المسرح العائم    خاص| أمين الفتوى يحسم جدل فتوى المطرب عمر كمال    عاجل - موعد عرض مسلسل صلاح الدين الأيوبي الموسم الثاني 2024 والقنوات الناقلة    فوائد دبس التمر، يقوي المناعة ويحسن المزاج ويعزز صحة القلب والعظام    تفحم سيارة اشتعلت النيران بداخلها في مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    بالصور.. "طيبة التكنولوجية" تُنظّم ندوات حول الشمول المالي وريادة الأعمال حتى نهاية أكتوبر    زيلنسكي يتهم كوريا الشمالية بإرسال جنود للقتال مع روسيا    تعرف على سعر الزيت والأرز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الإثنين 14 أكتوبر 2024    مدير الهابيتات ل"اليوم السابع": المنتدى الحضرى العالمى فرصة لمواجهة التحديات    طاقم حكام مباراة وادي دجلة ولافيينا في دوري المحترفين    عقب حادث قطار المنيا.. اجتماع طارئ ل وزير النقل مع قيادات السكة الحديد اليوم    فتح الله:مواجهة بيراميدز والزمالك متكافئة    رئيس الكنيسة الأسقفية ينصب قسا جديدا للكنيسة بالسويس    أستاذ علوم سياسية: مصادرة موقع الأونروا جريمة إسرائيلية ضد القانون الدولى    آخر الليالي العجاف.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الإثنين: والأرصاد تُناشد: «توخوا الحذر»    إجراء 876 عملية جراحية ضمن مبادرة القضاء على قوائم الانتظار ببني سويف    الجولة العربية الإسرائيلية الرابعة    تامر عاشور يروج لحفلة الأخير في الكويت    انطلاق ثالث ليالي مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية بروائع بليغ ووردة    "كريمة" رداً على عمر كمال: "كمل على بركة الله ولا تلتفت للناس الجاهلة"    سويلم يلتقي وزيرة المياه والصرف الصحي الجنوب أفريقية    ‫وزير الري: 30 دولة اشتركت فى مبادرة AWARe ضمن فعاليات أسبوع القاهرة للمياه    وكيل "صحة سوهاج" يتفقد الخدمات الطبية المقدمات بمستشفيات المحافظة    مستشار الرئيس للصحة يكشف أسباب زيادة أعداد الإصابة ب"الإنفلونزا الموسمية"    هل نقرأ التشهد فى صلاة التسابيح؟.. أمين الفتوى يجيب بالفيديو    ‫وزير الري: الأنهار العابرة للحدود تخدم 37% من سكان العالم.. وتشكل 60% من التدفقات العذبة العالمية    عضو «العالمي للفتوى»: هذه العبادة تفتح أبواب الرزق والخير (تعرف عليها)    رئيس جامعة الأزهر: 10 معجزات علمية في القرآن أذهلت العالم كله    الطبيب المصري محمد توفيق يكشف للقاهرة الإخبارية سر نجاح 33 عملية في 13 ساعة بغزة    قائد قوات الدفاع الشعبي: هدفنا رفع كفاءة الأجهزة التنفيذية بالمحافظات لمجابهة الأزمات    أسباب انتشار تطبيقات المراهنات في المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



48 ساعة من الدم والموت في المدينة الباسلة


أعد الملف: طارق الحريرى – هيثم الغيتاوى
يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى
اليوم تحتفل السويس بعيدها ونحن نحتفل بها ومعها.
لم تكن صدفة، تلك التى اختارت السويس لتكون مدينة أول شهداء ثورة يناير، وإنما هى تصاريف القدر التى تصر على أن تضع «بلد الغريب» فى صدارة المشهد دائما، حين يتعلق الأمر بالفداء والتضحية والمقاومة والشهادة، حتى عندما تكون بعيدة «جغرافيا» عن مسرح الأحداث. تماما كما حدث فى الثورة التونسية، عندما أبهرت مدينة «سيدى بوزيد» المحللين السياسيين كافة، بأن تنطلق ثورة تخلع حاكما فى غضون شهر واحد، بعيدا عن العاصمة.
كان سقوط الشهيد مصطفى رضا فى السويس، فى اليوم الأول للثورة، واستمرار المواجهة هناك، بمثابة «قبلة الحياة» و«التنفس الصناعى» الذى أعاد الحياة لصدر ثوار باقى المحافظات، بعد قسوة المواجهة فى أولى ليالى الثورة فى المحافظات كافة، وبعد أن ظن البعض أن الأمر سينتهى عند حد انتفاضة شعبية «قصيرة النفس» كما حدث فى أحداث 17 و18 يناير من عام 1977.
سحرٌ ما فى السويس، يعيد إنتاج تاريخها من فترة إلى أخرى، جيل أبطال المقاومة الشعبية ومنظمة سيناء العربية، الذين حرموا إسرائيل من استكمال مكاسب «الثغرة» باحتلال السويس، لينقذوا مصر كلها من الوقوع فى فخ «احتلال مقابل احتلال». تبعه جيل جديد، أنقذ مصر كلها أيضا من فخ إعادة إنتاج انتفاضة الخبز ب«نَفَسهم الطويل».
وجوه على الشط، سجل الأبنودى صمودها على شاطئ القنال طوال سنوات الاستنزاف، إذ فاجأنا الفلاحون فى حى الجناين بقدرتهم على مواجهة الحرب بزرع الأرض على خط النار، وبعد 40 عاما، فاجأتنا السويس من جديد بوجوه أخرى فى الميدان، تزرع الأمل فى مواجهة يأس النخبة.

100يوم من الحصار
تعليمات لمديرية الأمن بصرف 60 كيلو تبن فقط للحمار
فى ظل أسوأ أنواع الحصار عاشت السويس أجمل مئة يوم فى تاريخها، كان الإسرائيليون يُحكمون الحصار حول المدينة بقسوة، بلا ذرة واحدة من الرحمة التى تتطلبها قواعد التعامل مع المدنيين فى الحروب، طبقا للأعراف الدولية أو الحد الأدنى من قواعد التعامل الإنسانى، كانت المدينة تُعاقب على صمودها وتعاقب على إفشال مخطط الاستيلاد عليها، الذى لو تم لتحول مجرى الأحداث إلى أسوأ ما يمكن أن يقلب النتائج رأسا على عقب، بعد معركة العبور أحبط أهل السويس المخطط الإسرائيلى مما تسبب فى أن الثغرة صارت عبئا على الإسرائيليين، فقرروا الانتقام بحصار محكم ومريع.
فى اليوم قبل الأخير من أكتوبر استعادت السويس اتصالها اللا سلكى بالقاهرة، وحمل الأثير عبر موجاته اللا مرئية إيقاعا لم تعزفه عبر الزمان سوى المدن التى هزمت ضراوة الحصار، كانت إشارة الرجال قصيرة وموجزة للغاية.
وكما قال النفرى، كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى، وكانت عبارة «لا استسلام هنا» واسعة الدلالة، وتعنى أن الرجال رغم ضراوة الموقف أقوياء، ورغم الافتقار إلى مقومات الحياة الأساسية أقوياء، رغم الجوع أقوياء، ورغم العطش أقوياء، ورغم الظلام أقوياء.
كانت كمية الوقود المتوافرة لحصار مجهول المدة لا تكفى بالكاد إلا لمدة 50 يوما، والوقود عصب لمجريات الحياة اليومية ليس فقط فى الإضاءة، لكن أيضا لتشغيل الأفران والمستشفيات والسيارات و... ولم يكن بالمدينة سوى 1200 جوال دقيق، ومياه الشرب توقفت عن التدفق عبر ترعة الإسماعيلية التى قام الإسرائيليون بسدها فانقطع مصدر التغذية الوحيد لمياه الشرب فى المدينة، ولم يبق سوى مخزون يقدر بنحو 40 ألف متر مكعب فقط، بعد أن استولى الإسرائيليون على صهاريج المياه الاحتياطية فى شركتى «النصر للأسمدة» و«النصر للبترول».
كان الموقف عصيبا وكان على المدينة أن تخوض معركتها بأعصاب فولاذية وقوة تحمل تفوق التصور، وكانت ثقافة المقاومة وروحها المتفشية فى خلايا ومسام أبناء السويس فردا فردا أقوى من المصاعب وأعتى من التحديات، التى تفتتت على نصل الإرادة، فعلى الفور اجتمع المحافظ برجال الإدارة المحلية والشخصيات العامة، من أبناء المدينة لوضع خطط إدارة شؤون الحياة فى المدينة تحت وطأة الحصار لأى مدى مهما طالت مدته. وكانت الإجراءات التى تم اتخاذها ونفذها أهل المدينة بحذافيرها تتصف بتناقض ما بين شدتها وطرافتها، وكما استطاع رجال القوات المسلحة تنفيذ العبور بحلول غاية فى البساطة، استطاع أهل المدينة وقادتها تحت الحصار إيجاد حلول تعكس روح الإبداع ونية الصمود إلى ما لا نهاية.
بدأت الإجراءات والنواهى تتم على الأرض بحزم تام، وأولها حظر استخدام الوقود فى تسيير أى مركبات نهائيا، وتم تنظيم الحركة داخل المدينة عن طريق العربات الكارو والتروسيكلات. وبعد دراسة للموقف أصدر المحافظ التعليمات لمديرية التموين بصرف 60 كيلو تبنا فقط للحمار شهريا، وتم تحديد تعريفة ملزمة لاستخدام وسائل النقل المستحدثة بسبب ظروف الحصار، وبالنسبة إلى نظافة الأماكن العامة والمستشفيات والمراحيض فقد تم حلها عن طريق استخدام مياه البحر، وتحمل الناس عبء حمل المياه من القناة بأنفسهم، نظرا إلى عدم توافر وسائل نقل، وفعلوا ذلك باستحداث أسلوب للمناولة وصولا إلى الأماكن المراد تنظيفها بالمياه.
وكان لهذا الجهد أثره فى المحافظة على الصحة العامة ووقاية المدينة من تفشى الأوبئة، أما مخزون مياه الشرب فتم توزيعه يوميا بتقتير شديد بواقع 50 مترا مكعبا لكل فرقة من فرقتى الجيش الثالث: 5 أمتار مكعبة للمخابز، و3 أمتار مكعبة للمستشفى، وتم استدعاء كل المسنين فى المدينة لتحديد أماكن الآبار التى كانت تستخدم من عقود طويلة لجلب المياه، وبالفعل بدأ الحفر بسواعد الشباب ونجحت الفكرة فى إيجاد عدة آبار ساعدت المدينة فى الحصول على مياه صالحة للشرب، وإن كانت بعذوبة أقل. ومن العجب أنه بعد انتهاء الحصار بفترة بدأ الدجل الغيبى بإشاعات عن أن الآبار تفجرت من نفسها فى أثناء الحصار، بنفس منهج الدجل الذى ادعى أن الملائكة حاربت فى سيناء مع رجال القوات المسلحة.
خلال مئة يوم من الحصار حافظت السويس على أن تستمر الإضاءة الليلية فيها، وأن تظل المدينة متلألئة فى شوارعها الرئيسية وميادينها نكاية فى العدو الذى يقوم بالحصار، وجعل حيرته تزداد يوما بعد يوم، وغيظه يتضاعف. وكان وراء هذا الإنجاز المجيد إخلاص وذكاء رجال الكهرباء فى المدينة، مما سمح للمستشفى بتشغيل غرف العمليات وأجهزة التعقيم وتشغيل ورش القوات المسلحة وأجهزة الشحن واستمرار الأفران فى إنتاج الخبز وسنترال المدينة فى العمل.
بذل رجال الكهرباء جهدا خارقا لإدارة محطات التوليد، فعندما ظهرت مشكلة الحاجة إلى مياه للتبريد فى محطات التوليد تم استخدام مياه ترعة المغربى الموجودة داخل المدينة، وكانت مياها راكدة، لكنها صالحة لهذا الاستخدام، ونظرا لشح كمية الوقود بالمدينة لم يتم استخدام الطلمبات فى سحب المياه، وشمّر الرجال عن أذرعهم ونزلوا بتضحية إلى المياه الراكدة فى الترعة، ورفعوها فى صفائح، وبعد انتهاء مياه الترعة استُخدمت مياه المجارى التى عُولجت معالجة أولية بسيطة بالشبة والجير. كان قرار أهل السويس هو أن هذه المدينة لن تنطفئ لها أنوار مع ازدياد النقص فى كمية الوقود. بمرور الوقت صدرت تعليمات جازمة بحظر استخدامه إلا لورش القوات المسلحة والمحطة الرئيسية لتوليد الكهرباء والمستشفى فقط، وبدأ البحث عن الخشب فى كل مكان داخل المدينة، وتم تقطيع الأشجار المصابة بأمراض أو دانات المدفعية والطيران وفلنكات السكة الحديد والخشب الكسر فى المخازن، إلى أن تم العثور على ثروة هائلة تقدر بعشرة أطنان فى ورشة الصناعات الحربية فى بورتوفيق. وهكذا استمرت الحياة طبيعية فى أنشطة الحياة الضرورية للمدينة.
بسبب قلة مخزون الدقيق فى المدينة تم تحديد حصة قدرها رغيفان للمواطن يوميا زنة 235 جراما، بسعر عشرة مليمات للرغيف. وبمرور الوقت وتناقص كميات مخزون الدقيق تم تخفيض وزن الرغيف 50 جراما وتقليل الحصة إلى رغيف واحد فقط يومى السبت والثلاثاء. وكانت نفس هذه الشروط والمواصفات تنطبق على حصة الجيش الثالث، وحينما حل العيد الكبير فى السابع من يناير 1974 قامت مديرية الشؤون الاجتماعية فى المدينة بتوزيع جنيهين عيدية لكل مواطن موجود فى المدينة.

تجار الحروب.. والثورات أيضا
محافظ السويس: مئات البلطجية احتلوا ميدان الأربعين باسم الثورة
والله ما فى فايدة فى البلد.. وتقولّى نصر؟
إزاى يكون فى ناس تموت لاجْل الوطن.. وناس بتسرق قلب مصر؟
اتشبّهتلى السويس بشهيد ع الرمال.. مرمى وإيده ع الزناد
وزميله بارك فوقه يخلع ساعته.. أو دبلة جواز!
بين سطور ديوانه الملحمى «وجوه على الشط» كتب الأبنودى كلمات من لحم ودم، من واقع تجربته الواقعية، فى حرب الاستنزاف، راصدا الوجه الآخر للحروب، إلى جانب خسائر الأرواح، دائما ما توجد مكاسب لتجار الحروب، وأضيف هنا.. والثورات أيضا!
تذكرت قصيدة الأبنودى، بينما كنت أقف إلى جانب السور الخلفى لقسم شرطة الأربعين، بعد تدميره، لأجد عشرات الأكشاك العشوائية تحتل كل شبر فى ميدان الأربعين، حتى الجزر الوسطى لكل الطرق المؤدية إليه، معظمها يحمل لافتات بأسماء «الثورة، الشهداء، 25 يناير». إحداها وأكثرها استفزازا، ذلك الكشك الكبير نسبيا الملاصق لسور قسم الشرطة، رافعا لافتة «كشك الشهيد». مع ملاحظة أن أيًّا من تلك الأكشاك ليس مرتبطا بأسر الشهداء من قريب أو بعيد.
سألت محافظ السويس الجديد اللواء محمد عبد المنعم هاشم، عن تجاهل المحافظة لما يجرى فى أكبر وأشهر ميادين المدينة، فقال بمنتهى الثقة و«حسن النية» إنه أشرف بنفسه على أكثر من حملة لإخلاء الميدان من احتلال أكشاك البلطجية.. لكنهم يعودون مجددا.
آلاف الأمتار من الأراضى جرى البناء عليها دون وجه حق، وتكررت حوادث احتلال البلطجية الوحدات السكنية المملوكة للمحافظة والمخصصة لشباب السويس، استثمارا تجاريا لأسماء الشهداء وثورة يناير (بمنطق تجار الخشب) واسغلالا لمرحلة «ضعف سلطة الدولة» ممثلة فى الأجهزة التنفيذية بالسويس، حالها فى ذلك حال محافظات مصر كافة.
23 مليون متر مربع من تلك الأرض التى تحررت بدماء شهداء السويس فى سلسلة حروب، انتهت بحربى الاستنزاف وأكتوبر، تم تخصيصها بالأمر المباشر بأقل من أسعارها لرجال أعمال وهيئات وشركات تابعة للنظام السابق، ورجال أعمال الحزب الوطنى المنحل، فى منطقة شمال غرب خليج السويس، قال المحافظ إن قطاع الخبراء والطب الشرعى «الكسب غير المشروع» بمحكمة السويس، يجرى تحقيقات بشأنها، لسحب تلك الأراضى غير المستغلة فى الأغراض التى خصصت من أجلها، لرجال أعمال هبطوا على السويس ب«باراشوت الاستثمار» نذكر منهم أحمد عز ونجيب ساويرس ومحمد فريد خميس ومحمد أبو العينين. ولهذا الأخير قصة نحكيها هنا.
على بعد أمتار من كورنيش السويس، وفى أكثر المناطق تميزا، كان معرض السيراميك العملاق الخاص بشركات أبو العينين يقف شاهدا فى وجه المارة قبل ثورة يناير على قوة وسطوة أبو العينين وأمواله، قبل أن يتحوّل رمز سطوة وسلطان المال إلى أطلال يتم تفكيكها أمام أهالى المدينة، حتى تحولت الأرض إلى أكوام من التراب، بعد إحراق الغاضبين مبنى المعرض فى جمعة الغضب.
أعاد شباب السويس تخطيط الأرض المحيطة بأطلال المعرض، وزينوها بلوحات تحمل مطالب الثورة وصور شهداء السويس، وإمعانا فى الرمزية استخدموا بقايا «قطع السيراميك» المبعثرة حول المعرض لعمل مقاعد بسيطة لضيوف حديقتهم، بعد أن أطلقوا عليها اسم «هايد بارك.. مكانى».
فى مبنى مدرسة «فتية الإسلام» الملاصقة للأرض المذكورة، سألت الشيخ حافظ سلامة بطل المقاومة الشعبية فى السويس، عما يتردد بين أهالى المدينة حوّل نيته تحويل الأرض إلى مسجد بتمويل من جمعية الهداية التى يديرها، فأوضح لنا الأمر بقصة أكثر درامية. قال إنه حصل على وعد قبل سنوات من المحافظة بتخصيص تلك الأرض لإنشاء المسجد، لكن أبو العينين اشتراها ولم يستغلها، حتى تقابلا صدفة (الشيخ حافظ ورجل الأعمال أبو العينين) فى المسجد النبوى الشريف، وحصل وقتها الشيخ حافظ على وعد جديد من أبو العينين نفسه لبناء مسجد على تلك الأرض، لكنه لم يف بوعده وحوّلها إلى معرض فخم جدا لشركاته، حتى «عاقبه الله بما حدث للمعرض من حرائق وخسائر فى أعقاب الثورة، عقابا له على عدم الوفاء بوعده لنا، وتفضيله استثماراته وتجارته فى السيراميك على تجارته مع الله».
إلى هنا انتهت شهادة الشيخ حافظ، وبقيت الإشارة إلى «سوق العصر» إحدى أجمل قصائد الأبنودى، التى كتبها فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، مع تدشين مرحلة «انفتاح السداح مداح».. وبيع الدم بالدولار.
يلكزنى «حسانى» شهيد أكتوبر.. بيد غرقانه دم وعيون طايلها الهم:
ما تقولّيش عاد الباشا.. لإنه عاد من زمان.
رجع يعلى صوته فى القاعات.. وينجعص فى صفحة الجورنان.
رجع يدافع عن ماضيه الكبير.. فى ذل شعبه الفقير.
كإنها مش بلدنا.. وكإنها مش مصر.
وكإنها طالعه من أكتوبر.. تخش سوق العصر.

ليلة وقف فيها السوايسة بقلوبهم فى مواجهة قنابل العدو
الموظفون والتجار والفلاحون تسلحوا وكونوا مجموعات قتالية
فى ليلة 23/24 أكتوبر سنة 73 وقبل بزوغ فجر ذلك اليوم المشهود الذى وصل القتال فيه فى شوارع مدينة السويس إلى حد التلاحم بالسلاح الأبيض، كانت القوات الإسرائيلية تحيط بالمدينة وتعزلها تماما عن محيطها الخارجى وتطوقها بحشد ضخم من القوات المدرعة وجنود المظلات، وفى فجر ذلك اليوم كان الموقف حول المدينة بالغ التعقيد والخطورة للأسباب الآتية:
1- حصار تام للمدينة من جميع الاتجاهات عدا قطاع غير مؤثر فى شرق المدينة.
2- احتلال مدينة الزيتيات المتاخمة للمدينة.
3- سقوط ميناء الأدبية جنوبى السويس.
4- انتشار القوات الإسرائيلية فى تخوم منطقة المثلث غرب المدينة.
5- إغلاق طريق المعاهدة.
6- وجود كثيف لقوات معادية شمالى المدينة فى منطقة الجناين.
كان هذا الوضع يدعو إلى الإشفاق على المدينة التى كانت تتعرض بعد بداية الحرب بفترة قصيرة لقصف مستمر من الطيران والمدفعية، أى أنها كانت مدينة منهكة تفتقر إلى حماية من قوات نظامية بعد الفراغ الذى نشأ غرب القناة نتيجة تطوير الهجوم، وكان على أهالى المدينة وقياداتها أن يواجهوا مصيرهم بأنفسهم.
فى فجر ذلك اليوم كانت المدينة مثقلة بالغموض والترقب ولم يغمض جفن لرجالها الذين قرروا التشبث بالأرض مهما كان الثمن، فقد كانت كل النذر تشى بيوم عصيب يوشك أن يبدأ بين لحظة وأخرى بهجوم إسرائيلى غاشم وعنيف لابتلاع هذه المدينة، وكان الإسرائيليون سواء من قادتها السياسيين أو العسكريين مصابين بهوس طاغٍ لاحتلال المدينة. ويمكن تلخيص الرغبة الإسرائيلية العنيفة فى احتلال المدينة فى الأسباب الآتية:
أولا: بعد الفشل فى احتلال الإسماعيلية سيؤدى احتلال السويس إلى انكشاف خلفية القوات فى الجيش الثالث مما يُنتِج وضعا عسكريا حرجا للغاية لهذه القوات ويُحكِم الحصار عليها ويُلجِم أى قدرات متاحة لها.
ثانيا: احتلال السويس كان سيمنح إسرائيل ورقة ضغط هائلة تقلل من إمكانات متخذ القرار السياسى والعسكرى فى مصر.
ثالثا: سقوط السويس يتيح لماكينة الدعاية الإسرائيلية إحداث دوىّ إعلامى يفسح لها فضاء أوسع لمناورات تجنى من ورائها عدة مكاسب، منها تعويض الشارع الإسرائيلى عن صدمة فقدان الثقة المباغت فى جيش إسرائيل الذى لا يُقهَر.
رابعا: تاريخ مدينة السويس وتردد اسمها فى المحافل ووسائل الإعلام الدولية بسبب تسمية القناة باسمها وإطلاقه على حرب 1956 فى أدبيات السياسة والتاريخ العسكرى يساعد إسرائيل فى حالة احتلالها المدينة على استعادة أساطيرها العسكرية لدى الرأى العامّ العالمى.
خامسا: من المؤكد أن سقوط المدينة كان سينتج عنه زلزال معنوى يعوق الحشد المعنوى والنفسى الذى تحقق للمصريين بعد معركة العبور الناجحة.
فى ليلة 23/24 بدأت الاستعدادات داخل المدينة للدفاع عنها ضد هجوم آت لا محالة وقامت بهذا الدفاع قوات من 3 مجموعات.
المجموعة الأولى:
تتكون من عنصر واحد هو رجال منظمة تحرير سيناء وكانت لها قيادة مركزية من قائد مكتب مخابرات القوات المسلحة، العقيد فتحى عباس، وكان أفراد هذه المنظمة تلقوا أرقى أنواع التدريب لمهارات القتال الميدانى وحروب العصابات، وكان يقود تدريبهم المقدم مختار حسين الفار من رواد القوات الخاصة الأوائل، وأدى أفراد هذه المنظمة دورا بطوليا فى تدمير القوة المدرعة التى اخترقت شارع الأربعين لشطر المدينة وكان دورهم أحد الأدوار الرئيسية فى إنقاذ المدينة.
المجموعة الثانية:
كان يقودها المستشار العسكرى لمحافظة السويس العميد عادل إسلام الذى صدر قرار من وزير الحربية بتنصيبه قائدا عسكريا للمدينة فى مساء 23/10 على أن تخضع لقيادته كل القوات العسكرية ذات الطبيعة العسكرية فى المدينة، وهى قوات الدفاع الشعبى ووحدات الدفاع الإقليمى وسرية من سرايا حماية الشعب وسرية مشاة ميكانيكى وقوة الصاعقة التى استمرت فى تنفيذ مهمة تأمين بورتوفيق ونجحت فى هذه المهمة، وقد قام العميد عادل إسلام بوضع خطته بناء على الإمكانيات المتاحة وتم توزيع هذه القوات فى مواقع محددة فى الحدود الخارجية للمدينة وبعض المناطق الحيوية داخلها وقد نجحت هذه القوات فى تأدية مهامها.
المجموعة الثالثة:
كانت تتشكل طبقا لقرار قائد الفرقة 19 فى حد يسار الجيش الثالث من بعض الوحدات والمجموعات الصغيرة التى تم دفعها إلى الغرب لمنع قوات العدو من احتلال المحور 23 الذى يمتد فى المسافة ما بين الهويس وبورتوفيق، ويؤدى الاستيلاء عليه إلى عزل السويس نهائيا عن القوات فى شرق القناة وحدوث انكشاف خطير لخلفية الجيش الثالث فى سيناء، وقد استطاعت سرية المقذوفات الموجهة رد هجوم على محور طريق المعاهدة شمال السويس وتدمير 9 دبابات للعدو مما جعله ينسحب ويلغى خطة التقدم على هذا المحور، وهو لا يعلم أن ذخيرة سرية المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات كانت قد نفدت.
ومن الممكن القول تجاوزا إنه كانت هناك مجموعة رابعة شاركت بوازع من وطنيتها فى حماية المدينة، كانت تتكون من الجنود الذين لجؤوا إلى المدينة من مناطق الثغرة ورجال الشرطة والمدنيين الذين تسلحوا بأسلحة الشهداء والمصابين، وهم موظفون وتجار وفلاحون، وعلى الرغم من أن هذه المجموعة لم تكن تخضع لقيادة توحدها فإنها شكلت طبقا لمجريات القتال مجموعات صغيرة أفرزت قياداتها المحلية، وكانت أهمية هذه المجموعة أنها أدت دورا مهما فى تعزيز روح المقاومة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.