أنا من مواليد يناير.. أحب الصيف فقط لارتباطه بالإجازات واللهو على البلاجات، الحر يفقدنى نعمة التركيز، خصوصا أننى ممن تمرضهم المكيفات الهوائية بالطبع.. رمضان فى عز الحر يلقى بى إلى متاهة يمتزج فيها التخريف بالعمل، فأحصل فى بعض الأحيان على مادة أدبية فريدة من نوعها، قد يقرأها الصائم ويهتز طربا، لكن بالطبع هل تضمن لى أن يستمر ذلك الأثر الطيب لما بعد الإفطار؟ عموما إليك ما أسفر عنه يومى الأول الطويل. صحوت فى المترو على صوت بائع يلقى بكتيبات فى حجور الركاب، سائحى الأدمغة الراغبين فى اللحاق بمدفع الإفطار: صلح شرطتك القديمة، واتخلص من مؤسستك القمعية، ولا الحوجة لوزراء الداخلية! قال لك الكتاب ده بيتباع فى جورجيا وصربيا يا محترم، باتنين يورو، لكن عشان الحبيب النبى، مش الحبيب العادلى، خليناه بجنيه واحد بس، وعليه كمان ملحق هدية، دورة تدريبية لإسقاط النظام! أمسك الرجل الملتحى الذى يجلس إلى جوارى بالكتيب وتصفحه بسعادة بالغة.. ابتسم لى ومد يده بجنيه إلى البائع قائلا: مش حيضر، جايز الملحق بتاعه ينفعنا، لو حزبنا خسر الانتخابات! اسمع كلامى وخد لك واحد، بس اوعى تكون ليبرالى من بتوع الدولة المدنية والعياذ بالله! تفرس الرجل فى وجهى مليا ليسبر أغوارى، أى ليكتشف ما بداخلى، على افتراض أننى كائن زجاجى، أو أنه يمتلك أشعة نظر (سوبرمانية) خارقة، ستتيح له أن يرى ليبراليتى وهى ترقد مرتعدة بداخلى.. أشحت بوجهى عنه متأملا الأصابع الغليظة التى تطل من صندل سيادته، فلم ينقذن من نظراته إلا رنة موبايل عجيبة لأغنية تقول: ارفعى راسك بالحرية، يا حبيبتى يا مزة يا مصرية.. امحى فلولى بعد الثورة.. قلبى تختة وانتى بشاورة.. امسحى كل الماضى حاجيلك، من غير ولا تجربة عاطفية، يا حبيبتى يا مزة يا مصرية! سألت جارى متعجبا: مش ده تامر برضه؟ هز رأسه موافقا.. أضفت بحذر: ومش غريبة إنه بيغنى للثورة؟ أجاب مندهشا: حضرتك بتهزر؟ ده عاشر ألبوم يعمله للثوار! سألته ساخرا: لماذا لم يغن لهم إنجلش لانجويدج؟ ضحك وقال: ياه لسه فاكر؟ الثوار سامحوه بعد ما اشترك فى مظاهرات سوريا، وأسهم فى إسقاط بشار! غادرت المترو متعجبا.. خرجت من المحطة لأجد نفسى فى ورطة.. عشرات الأذرع تتخاطفنى، وقع قلبى فى قدمى، وقلت لنفسى: يا دى النيلة! بلطجية فى رمضان؟ عرفوا إزاى إنى من أنصار الثورة؟ يكونش حد منهم شاف صورتى فى جرنان التحرير أو فى مجلة قطر الندى؟ اشرب يا حلو، طول عمرك وانت فى أزهى عصور الأمن والأمان بتكتب قصايد، وقصص ضد النظام بس ما كنتش بتلطع صورتك جنبها.. كنت خايف بتوع أمن الدولة يعرفوا شكلك، دلوقتى بتوع «آسفين يا ريس» مش حيعتقوك.. أغمضت عينى فى انتظار انهيال الركلات، وما تيسر من السنج.. انتشلنى صوته من وهدة الرعب: ما تخافش يا أستاذ، محدش حيعملك حاجة، إحنا بنتخانق على اللى بينزلوا من المترو عشان يتفضلوا يفطروا عندنا فى موائد الرحمن بس محدش بيعبرنا! أنا شخصيا عامل مائدة خمس نجوم، والأكل فيها آلا كارت! يعنى تقعد زى الباشا، ويجيلك (المتردوتيل) لحد عندك ياخد طلباتك! بس طبعا لو عايزنا نلحق نطبخ اللى حتأمر بيه، لازم تشرفنا قبل الفطار بنص ساعة على الأقل.. لو اتأخرت مش حيبقى قدامك غير البوفيه المفتوح! أجلسنى الرجل على أقرب كرسى، قبل أن أقع من طولى.. أخذ يشكو لى بحزن حقيقى: آدى يا عم اللى خدناه من الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وانعدام الفساد! مستوى المعيشة ارتفع بشكل رهيب لدرجة إنى بافكر بجد السنة الجاية أستورد صائمين من الخليج! قلت له مندهشا: من الخليج؟! هز رأسه: أصل بترولهم خلص، وبقى حالهم يصعب على الكافر! هرولت فى الطريق، وأنا أهتف من الرعب: دماغى ساحت! مخى ضرب! وصلت إلى العمارة التى يسكن بها أخى.. صعدت السلم قافزا، ضربت الجرس، فتحت لى ابنة أخى، تفرست فى ملامحها، كانت تبدو أكبر من عمرها بسنوات، قلت بحذر، مخافة أن أغضبها: ربنا يكون فى عونك.. أكيد العيال تاعبينك.. فجأة خرج مراهق ومراهقة لا أعرفهما من الداخل، جذبنى كل منهما من ناحية، قلت لها مبتسما: مين الأمامير دول؟ ردت: معقولة يا عمو نسيت ولادى؟ عشان ما بنشوفكش غير فى رمضان بس.. صرخت مذعورا: دول ولادك؟ هما مش كانوا لسة فى الحضانة من كام إسبوع؟ ردت بابتسامة ساحرة وتنهدت: سُنة الحياة يا أونكل.. العيال بيكبروا ويكبرونا معاهم.. اتفضل حضرتك.. حنفضل واقفين كده على الباب؟ المدفع حيضرب.. ده أنا عاملة لك مخ بانيه، حتاكل صوابعك وراه، نظرت إلى نتيجة الحائط، رأيت مكتوبا عليها 2021، بأرقام كبيرة تفقأ عين الصقر، صرخت: حرام عليكم يا عالم مخى سااااح.. أظلم المشهد أمامى.. أضىء النور بعد مدة لا أعلمها على إثر انسكاب جردل من الماء على رأسى.. نظرت بهلع إلى دائرة الوجوه التى تحيط بى، أتانى صوت سيدة مسنة، تسبقه مصمصة شفاة: لا حول ولا قوة إلا بالله.. تالت راجل يسورق فى الشارع النهارده، فى أول يوم رمضان.. آدى اللى خدناه من الثورة!