«الجيش حمى الثورة».. عبارة يكررها أعضاء المجلس العسكرى فى كل مناسبة أو برنامج تليفزيونى، لكن لا أحد منهم يقول من كان يهدد الثورة! أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال سوف تقلب موازين محاكمة مبارك وعائلته، خصوصا أيضا أن المشير طنطاوى أكد من قبل أن «الجيش رفض تنفيذ أوامر صدرت له بإطلاق النار على المتظاهرين من أجل تفريقهم» ولم يقل لنا المشير أيضا من الذى أصدر هذه الأوامر، هل هو الرئيس المخلوع باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة أم الوريث جمال الذى كان كان يدير فعليا شؤون الدولة؟ بالتأكيد ليس لجمال أى صفة ليصدر مثل هذه الأوامر، ولكن أيضا لأن الشعب يريد معرفة الحقيقة.. بأى صفة أصدر قرارا بإقالة المشير طنطاوى ورئيس الأركان سامى عنان قبل خلع والده مباشرة؟ هل كان الأمر كله مجرد شخص فاقد أعصابه بعد أن وجد حلمه فى رئاسة مصر يتبخر؟ هذه الحكاية أكدتها مصادر عديدة، حيث أعد مبارك الابن قرارا بإقالة المشير، لأنه لم ينفذ أوامر فض التظاهرات بالقوة. البيان أرسله أنس الفقى (الذى كان مقيما فى بيت الرئيس فى أثناء الأزمة) إلى عبد اللطيف المناوى وطلب إذاعته ولكن المناوى رفض ذلك خوفا من أن يتحمل وحده المسؤولية، خصوصا أن أوامر وزير الإعلام له كانت شفاهية وغير مستندة إلى أوراق. المناوى يومها أرسل البيان إلى المشير وقيادات القوات المسلحة (هذا سر قوة المناوى وسفره إلى لندن، وتصريحات بعض أعضاء المجلس العسكرى بأن موقفه أيام الثورة كان موقفا نبيلا... وسيكشفه التاريخ)! بعد هذه الواقعة حسم الجيش موقفه مما يجرى، بعد أن كان على الحياد، على سبيل المثال فى موقعة الجمل، باعتبار أن مواطنين يتعاركون مع مواطنين مثلهم، عقد أول اجتماع للقيادة العامة من دون الرئيس، وهو ما كان رمزا لإقالة الرئيس وغيابه عن المشهد. أى أن المؤسسة العسكرية لم تتدخل بحسم إلا عندما وصل جنون الوريث إليها، أو حسب بعض التوقعات فضلت التضحية بمبارك من أجل بقاء النظام، أو شقه العسكرى على الأقل. وهذا هو ما يصنع الفارق بين «ثوار» التحرير، والمجلس العسكرى فى إدارته السياسية للبلاد. الفرق هو فرق فى المفاهيم. ففى الوقت الذى يرى فيه الثوار أن ما جرى فى مصر «ثورة» تعنى تغييرا وتطهيرا شاملا للنظام وتقويضا للنظام القديم كله، يرى المجلس العسكرى أن ما جرى هو تقويض لمشروع الثوريث الذى كان عديد من قيادات الجيش يرفضه، ومن ثم يسعى المجلس العسكرى إلى استعادة الأمور كما كانت قبل ظهور جمال مبارك فى الصورة. أى أن المجلس العسكرى ضحى بمبارك من أجل بقاء النظام وليس لديهم مشكلة فى «المباركية» أو المنطق الذى حكم به مبارك مصر طوال 30 عاما، هى مدة حكمه! وهذا هو تقريبا سر ارتباك إدارة المرحلة الانتقالية، إدارة مصر بمنطق الثكنة العسكرية، حيث تنفيذ الأوامر من دون مناقشة، بل وبنفس المنطق القديم: منطق الشائعات، والاتهامات بالخيانة، التمويل والمندسين فى الميدان، ثم التهديد والوعيد، والتباطؤ الذى يصل إلى التواطؤ أحيانا! فى المقابل يرى شباب التحرير أن ما حدث هو ثورة وأن الإفراج عن المعتقلين أو تغيير اسم جهاز أمن الدولة أو المحاكمات الهزلية لا يعنى أن الثورة أنجزت وعودها، لأن ما حدث حتى الآن حدث مثله فى بداية كل عهد جديد. مبارك نفسه بدأ حكمه بمحاكمة عديد من رؤوس الفساد فى العصر السابق له، بل طالت المحاكمات أسرة الرئيس السادات نفسه، كما أفرج عن المعتقلين السياسيين. والسادات نفسه بدأ حكمه بما أسماه ثورة التصحيح، وحاكم مئات من رجال عبد الناصر بالتهم ذاتها، كما هدم السجون وتحدث عن نهاية عهد التنصت وزوار الفجر. والمفارقة أن جهازا مثل أمن الدولة هو ضحية بدايات العصور، ولكنه فى كل مرة يعود باسم آخر وبمهمات لا تختلف كثيرا عن سابقه وشراسة أشد، سواء عندما كان اسمه جهاز المخصوص أيام الملك وكانت مهمته تتبُّع الوطنيين والقضاء على مقاومتهم للاحتلال، أو عندما أصبح المباحث العامة فى عهد السادات قبل أن يصبح جهاز أمن الدولة فى عصر مبارك، ثم الأمن الوطنى فى عهد ثورة يناير. المحاكمات وحدها لا تكفى، وتغيير الأسماء أيضا لا يكفى، ما نريده هنا هو ثورة، أى أن يكون إيقاع المؤسسة العسكرية سريعا مثل إيقاع الثورة، أن تحدث تغييرات جذرية، مع إلغاء القوانين المقيدة للحريات (لم يعد أحد يتحدث عن قانون الطوارئ الآن) وأن يضمن الدستور هذه الحريات. الشعب يريد تغييرا ثوريا لا تغييرا جزئيا لامتصاص غضب الشعب ثم تعود الدائرة مرة أخرى كما كانت من قبل أو ربما أسوأ. لا نريد أن نقول «خلف كل قيصر يموت قيصر جديد»!