فى أول أيام شهر الصيام، فوجئ المعتصمون فى ميدان التحرير، بهجوم قوات الجيش والشرطة، وفض الاعتصام بالقوة، واعتقل عدد من المعتصمين وأهالى الشهداء والمصابين، واقتحمت القوات مسجد عمر مكرم للقبض على من احتمى به.. هذه مقدمة لا بد منها قبل أن نتأمل فى كلمات عن الصوم كتبها الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى (560 – 638 ه)، صاحب «الفتوحات المكية»، أعظم موسوعات التصوف الإسلامى، إذ كتب: «لما كان الصوم للإنسان حكما لا عينا، أضافه الله إليه وعرى الصائم عنه، مع كونه أمره بالصيام. فينبغى للصائم أن يكون مدة صومه ناظرا إلى ربه»، فإذا صام العبد، غلق أبواب نار طبيعته، وصفدت الشياطين، فكان الصائم قريبا من الله بالصفة الصمدانية. فالصوم يوجب القرب من الله الذى ليس كمثله شىء، والصوم لا مثل له فى العبادات. وكما لا يجتمع القرب والبعد، كذلك لا يجتمع الصوم مع الجنابة والأذى». ويقول: «الصوم أتم من الصلاة، لأنه أنتج لقاء الله ومشاهدته. والصلاة مناجاة لا مشاهدة»، إذ المشاهدة والمناجاة لا تجتمعان. فمن راعى الله عز وجل فى صومه، فما يكون جزاؤه إلا هو! «من وجد فى رحله فهو جزاؤه» (يوسف 75). فإن الحق سبحانه وتعالى ما وسعته أرضه ولا سماؤه، ولكن وسعه قلب عبده المؤمن. وفى الصوم مشقة لأنه يخالف ما جبل عليه الإنسان، ونلاحظ فى الصوم وجهين «للحق من وجه ما فيه من تنزيه، ويكون من وجه ما هو عبادة فى حق العبد. جنة ووقاية من دعوى فى ما هو لله، لا له. فإن الصوم لا مثيل له، فهو لمن لا مثل له، فالصوم لله، لا لك». وهناك فروق بين صوم العامة، وصوم الخاصة، وهنا يقول ابن عربى: «نحن مشاركون لهم فى ما تطلبه النفس النباتية منا ومنهم، وهم لا يشاركوننا فى ما يختص بالنفس الناطقة التى هى العقل، من إيصال الحق إلى مستحقيه»: فإن لنفسك عليك حقا، وهو أشد حقوق الأكون بعد حق الله عليك. لأن خصمك بين جنبيك». وثمة علوم وأسرار إلهية عزيزة، يعرفها من تحقق بها، ويسعد بها أهل الاعتبار والفهم. ولذا يقول الشيخ: «والشهر مثلا مضروب لمن يعقل عن الله. ففى صيام سر الشهر مقام جمعية الهمة على الله، حتى لا يرى غير الله. وهو قوله، صلى الله عليه وسلم، لى وقت لا يسعنى فيه غير ربى. لأنه فى تجلٍ خاص به». وهذه الدرجات العليا، لمن زكى نفسه، وكان خالصا للحق وحده، بإيثار الحق على الخلق، وعلى كل ما سواه. إذ من أراد الإقامة مع الله أن يقيم معه بصفة هى لله، وهى الصوم: ليكون مع الله، بالله، لله. فلا يُرى منه شىء إلا بالله. وهذه حالة أهل الله.