أول جواب شخصي أستلمه في حياتي كان من صديقة لبنانية عام 1976، وكان عمري قد بلغ وقتها ستة عشر عاما. شرعت في مراسلتها بعد أن التقطت اسمها من فقرة هواية المراسلة في برنامج سناء منصور بإذاعة مونت كارلو. تلك المذيعة التي احتل صوتها مرحلة المراهقة، هذا الصوت الجميل الخشن المعبأ بنيكوتين المرح والثقة بالنفس. كنت أعرف تماما أن هناك المئات الذين يدونون في اللحظة نفسها اسم هذه الفتاة، ولكني أرسلت لها رسالة وأنا على يقين بأني سأكون الصديق الوحيد لها، الذي سيكمل هذا الماراثون الطويل وسط المئات، بعد أن يسقط الآخرون صرعى الملل، أو خروجهم من السباق بسبب تحولهم لطور آخر في معرفة "الآخر"، غير هذه المعرفة اللا مرئية؛ وقد كان. أول جواب شخصي أستلمه في حياتي كان من صديقة لبنانية عام 1976، وكان عمري قد بلغ وقتها ستة عشر عاما. شرعت في مراسلتها بعد أن التقطت اسمها من فقرة هواية المراسلة في برنامج سناء منصور بإذاعة مونت كارلو. تلك المذيعة التي احتل صوتها مرحلة المراهقة، هذا الصوت الجميل الخشن المعبأ بنيكوتين المرح والثقة بالنفس. كنت أعرف تماما أن هناك المئات الذين يدونون في اللحظة نفسها اسم هذه الفتاة، ولكني أرسلت لها رسالة وأنا على يقين بأني سأكون الصديق الوحيد لها، الذي سيكمل هذا الماراثون الطويل وسط المئات، بعد أن يسقط الآخرون صرعى الملل، أو خروجهم من السباق بسبب تحولهم لطور آخر في معرفة "الآخر"، غير هذه المعرفة اللا مرئية؛ وقد كان. *** في فقرة هواية المراسلة في برامج إذاعة مونت كارلو، كانت هناك مجموعة كبيرة من الشباب المصري، تتكرر أسماؤهم، وأغلبهم يسكنون في أغوار الأرياف في محافظاتالشرقية والدقهلية ودمياط، وعناوينهم عادة: يسلم ليد فلان، ومنه ليد فلان، ومنه ليد فلان. يعبر الجواب بعدة أيد وقرى وحوارٍ، حتى يصل لصاحبه، ولكن في المدينة *** في فقرة هواية المراسلة في برامج إذاعة مونت كارلو، كانت هناك مجموعة كبيرة من الشباب المصري، تتكرر أسماؤهم، وأغلبهم يسكنون في أغوار الأرياف في محافظاتالشرقية والدقهلية ودمياط، وعناوينهم عادة: يسلم ليد فلان، ومنه ليد فلان، ومنه ليد فلان. يعبر الجواب بعدة أيد وقرى وحوارٍ، حتى يصل لصاحبه، ولكن في المدينة اختفت هذه الأيدي، وصارت هناك يد واحدة/ عنوان واحد، هي التي تستلم الجواب. ربما هذا الشباب المراهق كانوا يقضي الليل يدبج الجوابات، يرمي بصنارة متعددة الخطاطيف في هذا البحر الأثيرى الواسع، وفي انتظار أن يأتي البوسطجي بالخير الوفير. كان ذكر الاسم في الإذاعة إحدى علامات الشهرة والفخر لصاحبها. كانت هناك أجيال متفرغة لهذه الهواية التي كانت السبيل الوحيد والمتاح للتعرف على الجنس الآخر، ليس هذا فقط، بل والانتقال إليه، عبر الحروف الساكنة، إلى حيث يسكن في ذلك البلد البعيد. بالنسبة لي لم أجرب هذه الهواية إلا مرة واحدة وأخيرة، عندما راسلت هذه الصديقة اللبنانية، وربما اختياري لها، بأن تكون الوحيدة التي أقوم بمراسلتها، هو السبب في استمراري داخل هذا الماراثون بدون ملل، أو أي رغبة في الانسحاب، إلا بعد استنفدت هذه الصداقة كل الأوجه المرسومة والمتاحة لها. *** كانت صديقتي تسكن إحدى قرى الجنوب الشيعية. وكان الجواب يصل من يد ليد. وبعد أول جواب تبادلناه، وكانت فرحة بوجود صديق مصري لها؛ انقطعت الأخبار لسنة ونصف السنة تقريبا، بسبب الحرب الأهلية اللبنانية ودخول الجيش السوري الجنوب، وفقدت خلالها الأمل في عودة البوسطجي حاملا الرد على جوابي الثاني. كنت أعرف خطها من العنوان، الذي يسرح ويخرج عن السطر مائلا لأسفل. عند وصول جوابها، أزنه في يدي قبل قراءته، وأمنِّي نفسي بهذا الوزن الثقيل الخفيف الذي سيتحول إلى خلوات عديدة، في أبعد نقطة في البيت، أراجع فيها كلماتها، وأعيد رسم صورتها وهي تكتب، وأتسلل مابين السطور والكلمات والمعاني لرسم صورة حسية لهذا الجواب. ربما من هنا بدأ الخيال يتحول إلى مادة، عبر الروايات وأيضا الجوابات، ففي الجوابات، بعكس الروايات، يعرفك البطل بالاسم. *** في الجواب الثاني الذي تأخر عاما ونصف العام، شرحتْ الأهوال التي مرت بها ومرت بها القرية الشيعية، والاحتلال السوري لها. وذكرت في أحد الجوابات التالية أن أحد الجنود السوريين الذين يقفون فوق الدبابات، أعجب بها، وعرض عليها الزواج. يبدو أن من كثرة الاحتكاكات اليومية، بينها وبين الدبابة ومن يقف عليها، أعجبها شكل الجندي حتى ولو كان محتلا. ربما أعجبت به ليس بوصفه محتلا، ولكن بوصفه إنسانا، فكانت دائما عندها هذه النظرة الإنسانية للأمور، ربما أعجبت به، نيابة عن الشعب السوري، كي تنفي عنه صفة الاحتلال. وفي أحد الجوابات، بعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، تتحدث عن تعاطفها مع جندي إسرائيلي، كان يقف حارسا على نقطة تفتيش، أخذ يحكي لهم عن حياته، أثناء مرورهم. *** كان إيقاع الجوابات في ظروف بريد هذه السنوات، وظروف الحرب في لبنان وما تلاها من تحولات، تأخذ شهرا ونصف الشهر أو شهرين، في الذهاب والعودة، أي بمعدل من ست الى تسع جوابات في العام، في الفترة القياسية. ولكن لم تكن الأمور تسير بهذه الطريقة، هناك لحظات بل شهور سأم طويلة كانت تتخلل هذا الإيقاع. فوجدت عندي في النهاية لحصيلة ثمانية عشر سنة من الصداقة، حوالي 65 جوابا، باستثناء كروت معايدة سريعة لم أكن أحسبها، لأن وزنها خفيف لا يشفع ولا يسمن من جوع، فلكي يؤتي الجواب ثماره وينجح في اختبار الصداقة القاسي، يجب أن يكون ثقيلا وحاملا رائحة هذا المكان الذي أتى منه، وعندما أعيد فتحه، ينطلق هذا العفريت الذي كان محبوسا في القمم، يخرج وينتشر في أرجاء غرفتي، وفي أبعد نقطة فيها، أستفرد بهذا العفريت الذي يأخذ شكل الأنثى ورائحتها، القادم من لبنان. *** كنت أفتخر بين طلاب المدرسة الثانوية، بأن لي صديقة لبنانية، في وقت لم يكن لدينا مانفتخر به. لم أعبأ بأنها تعيش في قرية، ولا كونها شيعية، ربما كونها شيعية، كان يزيدها جاذبية في عيني، كأن الديانة أو الملة الأخرى، تضيف جاذبية لهذا الآخر. أما كونها "لبنانية" فكان يعني خصوصية وتفردا وغموضا يضيف جاذبية للشخصية. ملأت هذه الصداقة، برغم بعدها، وطوال سنواتها، فراغا كبيرا داخلي مخصصا للأنثى. كانت تجلس في الصفوف الأولى، وتختلف وتحتد العلاقة معها تبعا لحالتي النفسية، فكانت تصل لدرجة المصارحة بالحب أحيانا، ثم تنتظر الرد بعد شهر مثلا، بعد أن تكون هذه الجذوة التي اشتعلت فجأة في إحدى ليالي الشتاء الكابية قد انطفأت. أو تصل الرغبة للانتقال إليها، أو اللقاء في مدينة ثالثة، هربا من واقع خامل في مصر. كنت أرى أن أي مكان خارج مصر هو الجنة حتى ولو كان يعيش حربا وتقسمه الحروب الأهلية! وأحيانا، وهي الغالبة، كان إيقاع الصداقة الحارة هو الذي يسيطر على علاقتنا داخل الجوابات، ويحفظ إيقاعها من الهزات العنيفة. *** كان كل ماهو بعيد له جاذبية: بلد، قرية، شخص، حتى طابع البريد. وكل ماهو قريب يسبب التكرار والرتابة. كان هناك شيء ناقص في تلك النظرة، وفي قياس المسافات بين القريب والبعيد. فكل بعيد داخله قريب، وكل قريب داخله بعيد، وهذا ما سألاحظه لاحقا، عندما بدأ هذا الفراغ المخصص للأنثى يمتلئ من تلقاء نفسه، ويفيض، وعبر علاقات أخرى اختلفت فيها معايير القرب والبعد والآلفة والغرابة. *** تخللت صداقتنا الكثير من "الأزمات القومية"، أولاها الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول الجيش السوري، ثم الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، مذابح صابرا وشاتيلا، موت السادات، معاهدة كامب ديفيد، انتفاضة الخبز وغيرها وغيرها. كانت هذه الصداقة تقف فوق صفيح سياسي وقومي ساخن، بل شديد السخونة، تتنطط مثل سمكة، ولا يمكن لها أن تستقر. ولكن بالرغم من كل هذا اتفقنا في أحد الأيام أن نلتقي في دمشق بعد أن تعذر الخروج من أو الدخول إلى لبنان. في هذا الوقت كان السفر بالنسبة لي معجزة، أولا لم يكن عندي باسبور، أو هوية أخرى غير البطاقة الشخصية المهترئة، وثانيا من أين آتي بتكاليف السفر، وأنا مازلت في المراحل الدراسية الجامعية، أو بدايات حياتي العملية ودخول الجيش، وهي مرحلة مسيجة بالاستحالة، وثالثا وهو الأهم، كان للسفر رهبة كبيرة وفرحة كبيرة أيضا، افضل استهلاكهما في الكلام والخيال، أكثر من الواقع. فكانت رغبتي في اقتراح السفر لدمشق نوعا من تمرير الفرح واستنفاده الآمن عبر الأمنيات التي تعرف بأنها لن تتحقق. *** حدثت بيننا مشادة قومية! وربما للمرة الأولى والأخيرة، وكانت بسبب معاهدة كامب ديفيد، وزيارة السادات للقدس عام 79، عندما قالت لي في معرض دعوتي لها لزيارة مصر، بأنها ستأتي عندما تعود مصر للصف العربي، وقد اعتبرت هذه الجملة إهانة شخصية. كانت تعبد عبد الناصر، وتكره السادات، وأنا كنت أشاركها كرهها للسادات وليس حبها لعبد الناصر. ليس كرها حقيقيا ماكنت أكنه للسادات ولكنه كره موجه، لأني يجب أن أقف ضد السلطة، والسادات كان ركنا ركينا منها. ظللت أدافع عن "الشعب" بكلمات ساخنة، فمصر ليست السادات، إلى آخره. ولكن هذه الجملة فتحت ثغرة في العلاقة بين الشخصي والعام داخلي ودعتني لتأمل نفسي. لاأعرف سبب هذا الدفاع المستميت من ناحيتي، خصوصا أنها صاغت جملتها بشكل فيه لياقة؟ هل هناك سبب نفسي، آخذ هذا الثوب القومي ليتجلى فيه؟ *** كانت تشجعني كثيرا على الاستمرار في الكتابة، كنت أرسل لها بقصائدي، وترى في شاعرا سيكون له شأن كبير كما قالت. حاولت أن أقوم ببذرة بحث أدبي تطبيقا على جواباتها لي. أو ربما هو أول محاولة أدبية بحثية أقوم بها. انتقيت من جواباتها تلك المقتطفات التي تتكلم فيها عن نفسها، وتصف إحدى خصالها، أو الأشياء التي تحبها أو تكرهها، أو المشاهد التي تصف فيها حياتها اليومية، أو تصف فيها بيتهم أو القرية أو مزرعة الخيول التي يملكونها. جمعت هذه المتقطفات ورتبتها في تسلسل حكائي، وأعدت كتابتها وأرسلتها لها مرة أخرى كجواب مني، ولكن بصوتها. كنت أعصر الجوابات لأستخرج منها رحيق شخصيتها، ورحيق المكان الذي تعيش فيه، وعندما تفتحه تفاجأ بهذا الدخان الحميم لهذا العفريت الذي ينتشر حولها باثا روحا ومكانا جديدين غير الروح والمكان اللذين أنهكتهما الحرب. *** كان عقدا الثمانينيات والتسعينيات هما ذروة مرحلة ازدهار الجوابات وهذا النوع من الحوار الأثيري في حياتي، وربما في مصر كلها، والعصر الذهبي للبوسطجي، في الوقت نفسه كان كل أصدقائي مسافرين في الخارج. هي المرحلة التي راهنت فيها على المسافات، وربما بدأ قاموس المسافة نفسه يتغير ويتعدد. ربما أهمية هذه الجوابات أنها حافظت على صورة حسية لهذا "الآخر"، وعلى المياه جارية تحت جسر الصداقات البعيدة/ القريبة. *** في بداية التسعينيات وبعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية حضرت صديقتي إلى مصر، وزارت بيتنا في الإسكندرية وقابلت أمي، كان هذا بعد وفاة والدي بشهور قليلة جدا، وقضينا وقتا طيبا في الإسكندرية والقاهرة. بعدها بدأ يخفت إيقاع الجوابات، وتجاهلنا سويا تماما كتابة رد فعل كل منا على هذه الزيارة، التي كانت كطاولة مباحثات ممتدة لحسم أحد الأمور الخاصة بالبعد والقرب وتلك المسافات التي تتحول لمشاعر وقرارات مصيرية. ولكن أيقنت وقتها أني كسبت رهان الماراثون، الذي نسيته في الطريق، وصرت صديقها الوحيد الذي أكمل السباق للنهاية. جاء هذه المكسب المعنوي بعد أن أيقنت خسارة هذه الصداقة، التي استنفدت كل أوجهها المتاحة. *** بعد زمن طويل عرفت بطريق الصدفة أنها هاجرت لإحدي الدول الأوربية. صادفني اسم اختها على الفيسبوك، كأحد الأصدقاء المقترحين! راسلت هذه الأخت، وعرفت بأن صديقتي تعيش هانئة مع عائلتها الجديدة. أخبرتها بالطبع بأن تسلم عليها كثيرا، ولكنها لم ترد أن تعطيني أي وسيلة اتصال بها. ثم جاءني ذات يوم جواب على الفيسبوك، باسم شاب يخبرني بأنه يقرأ لي ويشجعني على الاستمرار في الكتابة أو ماشابه ذلك. اعتقدت على الفور أنها هي، وأنها لازالت تتابع أحوالي، وتتتبع أخباري، وإلى أين وصلت بذرة الكتابة التي رعتها في بدايتها. في كل مناسبة يرسل لي هذا الشاب تهنئة أو تعقيبا على كلام لي منشور على صفحتي. ثم مع مرور الوقت فقد هذا الشاب حماسه واختفى تماما. *** في فيلم "نظرية المؤامرة" لميل جيبسون وجوليا روبرتس، يضطر ميل جيبسون أن يمثل بأنه قد مات، هربا من مطاردين رسميين يريدون قتله لاكتشافه أدوارا غير شريفة يقومون بها. المهم أثناء اكتشافاته هذه ثم تمثيل دور الميت، واختفائه عن الأنظار، حتى يتم سبك الدور على مطارديه؛ ويضطر لأن يودع صديقته التي تقوم بها الممثلة "جوليا روبرتس" للأبد، والتي قام بإنقاذها من قبل. ولكنه، خلال رحلة اختفائه، يظل يتابعها من بعيد، وينثر في طريقها بعض الآثار والروائح التي تذكرها به، وهي في الوقت نفسه تشعر بوجوده الشبحي يحوطها.