ضربت أروع الأمثال للزوجة التي آمنت بربها، وعرفت معنى اليقين بصدقِ وعد الله، وكانت معينة لزوجها على طاعة ربها، عندما تركها فى صحراء مكة القاحلة حيث لا زرع ولا ماء، إنها السيدة هاجر أم العرب والمصريين زوجة سيدنا إبراهيم، وأم سيدنا إسماعيل، فكافأها الله بأن جعل ما فعلته السيدة هاجر رضي الله عنها من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج. اختلفت الروايات فى أصل السيدة هاجر ولكن الأغلب ما رواه ابن كثير، حيث قال إنها كانت أميرة من العماليق وقيل من الكنعانيين الذين حكموا مصر قبل الفراعنة، وإنها بنت زعيمهم الذي قتله الفراعنة، ومن ثم تبناها فرعون وعندما أراد فرعون سوءا بسارة دعت الله فشلت يداه فقال فرعون ادعي ربك أن يشفي يديَّ وعاهدها أن لا يمسها، ففعلت فشفى الله يديه، فأهدى إليها الأميرة القبطية المصرية التي اسمها هاجر إكراما لها وليست خادمة كما يدعى اليهود في كتبهم. وينقسم اسم هاجر إلى قسمين بالهيروغليفي "ها" معناها زهرة اللوتس وكلمة "جر" معناها أرض جب بالمعنى التوراتى "مصر" أي اسمها زهرة اللوتس وكنايتها المصرية. واستدل المؤرخون على أنها من مصر من النوبة، كما أن السيدة هاجركانت تلبس ثوبا طويلا فضفاضا ليخفى آثار أقدامها عن السيدة سارة وهذا الوصف ينطبق على الجرجار اللباس النسائي النوبي المعروف والمستخدم حتى اليوم. واستدلوا أيضا على ذلك بأن كلمة زم زم، كلمة نوبية نطقت بها السيدة هاجرعندما انفجر الماء، ويقابلها في اللغة النوبية سم، والتي تعنى بالعربية فعل الأمر من جف، كما أن ابنها إسماعيل كان راميا بارعا للسهام وهذا إحدى أهم مميزات النوبيين القدماء الذين عرفوا تاريخيا باسم رماة الحدق في حروبهم مع الأشوريين والفرس والرومان وحتى مع العرب لاحقا في 41 هجرية. لما أدركت السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم الأولى أنها كبرت في السن، ولم تنجب، وهبت هاجر لزوجها ليتزوجها، عسى الله أن يرزقه منها الولد، وتزوج إبراهيم -عليه السلام- السيدة هاجر، وبدت عليها علامات الحمل، ثم وضعت إسماعيل عليه السلام عندما كان إبراهيم عليه السلام في السادسة والثمانين من العمر. ووجدت الغيرة طريقها إلى قلب السيدة سارة، فكأنها أحست أنها فقدت المكانة التي كانت لها في قلب زوجها من قبل، فطلبت منه أن يأخذ السيدة هاجر بعيدًا عنها، فأخذها سيدنا إبراهيم، عليه السلام، إلى صحراء مكة، بأمرٍ من الله، ولحكمة يريدها عز وجل، وحدث ما حدث لها ولوليدها. عندما خرج إبراهيم عليه السلام بسيدنا إسماعيل وأمه هاجر، وهو لا يدري إلى أين يأخذهما، فكان كلما مر بمكان أعجبه فيه شجر ونخل وزرع قال، إلى ههنا يا رب، فيجيبه جبريل عليه السلام، امضِ يا إبراهيم، وظل هو وهاجر سائرين، ومعهما ولدهما إسماعيل حتى وصلوا إلى مكة، حيث لا زرع هناك ولا ماء إلا حر الشمس، وأراد إبراهيم، عليه السلام، أن يترك هاجر وولدها إسماعيل، في ذلك المكان القاحل المقفر، حيث لا دار ولا طعام فيه ولا شراب، إلا كيس من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء كانوا قد حملوهما معهم عند بدء رحلتهم. فخافت هاجر على نفسها الجوع والعطش، وعلى ولدها الهلاك، فتعلقت بإبراهيم عليه السلام لا تريد أن تتركه يذهب، فقالت له إلى أين تذهب يا إبراهيم وتتركني وطفلي في هذا المكان القفر، ألا تخاف أن نهلك جوعا وعطشا، لم يجد خليل الله جوابا وإن رق قلبه وحار في أمره. ألحت هاجر في السؤال لمعرفة السبب، وظل إبراهيم منصرفا عنها يناجي ربه، ففطنت إلى الأمر فقالت له، آلله أمرك بذلك؟ قال نعم قالت، إذن لن يضيعنا، وبذلك تكون السيدة هاجر هي أول من سكن مكة وولدها الرضيع امتثالا لأمر الله ولحكمة أرادها سبحانه وتعالى. وانصرف إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو ربه ويقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ). وبعد أن نفد الزاد وبدأ طفلها في البكاء من شدة الحر والعطش، وقد جف لبنها فلم تجد ما ترضعه، وانفطر قلب السيدة هاجر من شدة بكاء رضيعها، ظلت تهرول بين جبلين في الوادي الفسيح يطلق عليهما الصفا والمروة، سبعة أشواط، لتنظر أحدًا ينقذها هي وطفلها من الهلاك، أو تجد بعض الطعام أو الشراب. فلم تجد شيئا غير رمال الصحراء فعادت إلى رضيعها، وقد كان يضرب الأرض بقدميه بقوة من شدة الحر والجوع والعطش، فبعث الله جبريل، عليه السلام، فضرب الأرض بجناحه لتخرج عين ماء بجانب الصغير، فتهرول الأم نحوها وقلبها ينطلق بحمد الله على نعمته، وجعلت تغرف من مائها، وتقول لعين الماء: (زمّي زمّي، فسميت هذه العين زمزم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم أَو قَال لَو لم تغرف من الْماء لكانت عيْنًا معينًا". وتجمعت الطيور حول البئر لتشرب من الماء، ومرت الأيام بطيئة ثقيلة، حتى نزل على هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس من قبيلة جُرْهُم، وأرادوا البقاء في هذا المكان، لما رأوا عندها الماء، فسمحت لهم بالسكن بجانبها، ومشاركتها في الشرب من ماء زمزم، واستأنست بهم، وشبَّ الطفل الرضيع بينهم، وتعلم اللغة العربية منه، ولما كبر تزوج امرأة منهم. وأصبح السعي بين الصفا والمروة من شعائر الحج بفضل السيدة هاجر تكريمًا لها. عاشت السيدة هاجر بأرض مكة المباركة حتى أتم زوجها وابنها بناء الكعبة بيت الله الحرام، ولقبت بأم العدنانيين، وتوفيت ودفنها ابنها سيدنا إسماعيل الذبيح بجوار البيت الحرام. تعرضت السيدة هاجر في حياتها مع نبي الله إبراهيم لمحنتين شديدتين، الأولى عندما تركها إبراهيم عليه السلام مع ابنها الرضيع في صحراء جرداء لا حياة فيها ولا ماء، فصبرت على ذلك، واستعانت بربها، ففجّر لها بئر زمزم، وجاءت إليها وفود الناس، فعاشت في أمن وسلام بجانب بيت الله الحرام. والثانية عندما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ولدها إسماعيل فلم تعترض، وقبلت قضاء الله بنفس راضية مطمئنة، ففدى الله ولدها بذبح عظيم. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري أن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال، "إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما فقلت لمحمد بن مسلم الزهري، ما الرحم التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فقال كانت هاجر أم إسماعيل منهم".