ازدياد حدة الانتقادات الموجهة إلى أوباما لأنه ظهر ضعيفًا وأعطى الفرصة لبوتين فى أن يتحداه واشنطن تواصل الحديث عن ضرورة «إيجاد حل دبلوماسى» للأزمة الأوكرانية والقرم. كما أنها مستمرة فى توجيه الانتقادات شديدة اللهجة إلى الرئيس الروسى بوتين والتلويح بمعاقبة روسيا وعزلها. ومع مرور الأيام ربما خفّ «دق طبول الحرب» إلا أن «أبواق التنديد والتهديد» ما زالت تصرخ وتصيح «العدوان والغزو.. وأطماع بوتين». الإشارة إلى الرئيس الروسى «بأنه من عالم آخر» و«أنه يستخدم منطق القرن ال19» لا يزال يرددها أغلب المعلقين كالببغاوات! وجاءت تسريبات إعلامية سياسية مؤخرا لتذكِّر بأن هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية السابقة، قارنت مؤخرا بوتين بهتلر النازى ومنطقه وتحركاته. وفى محاولة لتحقيق التقارب الدبلوماسى المرجوّ بدلا من المواجهة العسكرية قامت جهود مكثفة من جانب دبلوماسيين أمريكيين وأوروبيين على مدار يوم كامل (الأربعاء) فى باريس إلا أنها فشلت فى أن تجمع ما بين روسياوأوكرانيا لكى يتم البدء فى مفاوضات مباشرة تهدف إلى إنهاء التدخل الروسى فى القرم. وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى، ونظيره الروسى سيرجى لافروف أعلنا أنه تم الاتفاق على إجراء مزيد من المفاوضات ما بين الأمريكان والروس. كما أن التشاورات الأمريكية الأوروبية للوقوف مع أوكرانيا و«الضغط على روسيا لكى تتراجع أو تغير موقفها» لم تتوقف وتزداد كثافة. إذ وافق الاتحاد الأوروبى على تقديم مساعدات تقدر ب15 مليار دولار على امتداد العامين المقبلين، وعقد الكونجرس جلسات لإقرار مليار دولار لمساعدة أوكرانيا فى أزمتها الراهنة. كما تم البدء فى اتخاذ خطوات «عقابية» على روسيا ورجالها فى أوكرانيا (الرئيس السابق يانوكوفيتش و17 آخرين) بتجميد أرصدتهم المالية فى البنوك الأوروبية. وقد بدأ الحديث يتردد عن إمكانية وقدرة الولاياتالمتحدة على استخدام «سلاح الطاقة» بما لديها من كميات هائلة من الغاز الطبيعى كبديل لما تقوم روسيا بمده (أو منعه) لأوكرانيا وأوروبا. وهذا الحديث فى رأى المراقبين لم يَعُد حديث التمنيات بل يمكن تحقيقه، فالحجم المنتَج من الغاز الطبيعى فى الولاياتالمتحدة بفضل التكنولوجيا الحديثة فاق كل الأرقام وبالتالى أصبحت الولاياتالمتحدة أكبر دولة مصدِّرة للغاز. وخلال الأيام الماضية طالب قيادات بالكونجرس وبعض الشركات القائمة بإنتاج الغاز مسؤولى الإدارة والبيت الأبيض بالإسراع فى اتخاذ الخطوات التنفيذية والإدارية لإقرار هذه الوثبة الكبرى فى هذا التوقيت الحرج. ومن المنتظر أن نعرف فى الأيام المقبلة مزيدا عن جدوى تلك الخطوات وإمكانية استخدام «دبلوماسية الطاقة» كأداة ضغط أمريكية فى الأزمة الأوكرانية! ويلاحظ أنه على الرغم من الحرص الأمريكى على القول بأن روسيا يجب أن لا تقوم بتصعيد الموقف ومن ثم يتم توجيه النصيحة إليها بالتعقل و«ضبط النفس» فإن ما شهدته واشنطن فى الأيام الأخيرة كان عكس ذلك تماما، كأن أهل واشنطن عليهم أن ينصحوا الآخرين وكفى.. وهم أنفسهم لا يعملون ولا يريدون العمل بهذه النصيحة. انتقادات بلا حدود، وأصبح بوتين اللعبة والمزايدة والهدف والعدو الذى يتبارى السياسيون الأمريكيون فى انتقاده والمغالاة فى توصيفه و«شيطنته». والأمر الأهم اتهام الآخر الأمريكى فى لعبة السياسة بأنه على الرغم من معرفته بخطورة بوتين وطموحاته وتطلعاته وخططه التوسعية تم التعامل معه كصديق وشريك فى عديد من القضايا الدولية. وبالأمس جاء هنرى كيسنجر الداهية السياسى ليقول كلمته فى الأزمة الراهنة. كيسنجر الذى عاصر على مدى عقود طويلة الحرب الباردة وناور بالدبلوماسية وتحاور بالسياسة من أجل تفادى الصدام وخلق التقارب واحتواء الأزمات... كيسنجر فى مقال له نشرته «واشنطن بوست» تحدث عن كيف يجب أن تنتهى الأزمة الأوكرانية؟ وقد بدأ مقاله بالقول «إن النقاش العام عن أوكرانيا يدور بأكمله حول المواجهة. ولكن هل نعرف إلى أين نحن سائرون؟ فى حياتى شاهدت أربع حروب بدأت بحماس كبير وتأييد شعبى، وكل هذه الحروب لم نعرف كيف ننهيها، وثلاث من تلك الحروب انسحبنا منها كطرف أحادى». مضيفا: «إن اختبار سياسة ما هو كيف تنتهى وليس كيف تبدأ». وذكر كيسنجر فى مقاله: «فى الغالب القضية الأوكرانية يتم تقديمها على أنها مواجهة، وعما إذا كانت أوكرانيا تنضم إلى الشرق أو الغرب. ولكن إذا أرادت أوكرانيا أن تعيش وتزدهر فيجب أن لا تكون الجبهة الأمامية لجهة ضد الأخرى وإنما تعمل كجسر بين الجهتين». وطالب كيسنجر روسيا بأن لا تحاول دفع أوكرانيا إلى حالة التبعية وأن لا تعيد التاريخ القديم. كما قال إن الغرب يجب أن يقبل بأن أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا «ليست فقط دولة أجنبية» وأن أوكرانيا كانت جزءا مكملا لتاريخ روسيا ولروسيا نفسها. وبعد أن طرح كيسنجر التعقيدات التاريخية والسياسية للملف الأوكرانى حتى بعد استقلالها، أشار إلى بعض النقاط، ومنها أن أوكرانيا يجب أن يكون لديها الحق فى أن تختار شراكاتها الاقتصادية والسياسية ومنها ما هى مع أوروبا. وأن أوكرانيا لا يجب أن تنضمّ إلى حلف الناتو وأن يتم إيجاد صيغة روسية أوكرانية للوضع فى القرم. واختتم كيسنجر مقاله بالقول: «ما ذكرتُه يعدّ مبادئ وليس روشتات. ومن لهم دراية بالمنطقة يعرفون أن كل هذه المبادئ لن تكون سائغة لكل الأطراف. إن الاختبار ليس الرضا المطلق ولكن عدم الرضا المتوازن. وإذا لم يتم تحقيق بعض الحل مبنيا على هذه الأمور أو ما شابهها فإن الانجراف نحو المواجهة سيكون سريعا». انتهت كلمات كيسنجر وتحذيره مما هو آت. ووسط هذه الأجواء المتوترة لم يكن بالأمر الغريب خلال الأيام الماضية ازدياد حدة الانتقادات الموجهة إلى الرئيس أوباما على أساس أنه فى هذه الأزمة الدولية الجديدة مثلما كان خلال الأزمات السابقة ظهر ضعيفا ومترددا ومتخبطا مما أتاح بل أعطى الفرصة لبوتين (كما يقولون) أن يتحداه ويفعل ما يشاء ما دام ساكن البيت الأبيض فقط يلوّح ولا يتحرك، وغالبا متردد فى استخدام القوة الأمريكية الرادعة (حسب تعبيرهم). قيادات الكونجرس الجمهورية (مثل السيناتور جون ماكين) كانوا الأكثر إلحاحا وانتقادا وتوبيخًا فى هذا الجدل السياسى الإعلامى الذى تشهده العاصمة الأمريكية. فى المقابل ظهرت أصوات تدعو إلى تفادى إدخال هذه القضية الدولية والأزمة العالمية التى تواجهها أمريكا ومعها أوروبا فى إطار المبارزات أو المناطحات السياسية الأمريكية. روبرت جيتس وزير الدفاع السابق وصاحب توجهات جمهورية مع تأكيده أنه «ليس متفائلا» بشأن ما يتم طرحه بخصوص الأزمة الأوكرانية و«أن بوتين يعرف بالضبط ما يفعله» إلا أنه طالب الجمهوريين بأن لا يتمادوا فى انتقاد الرئيس أوباما. وبما أن الرئيس الأمريكى لكونه من الحزب الديمقراطى هو المستهدف فى هذه الانتقادات فإن مايكل ماكفول السفير الأمريكى السابق لدى موسكو، لم يتردد فى التذكير بمواقف روسية سابقة ومتشابهة لم يعلن الحرب فيها الرئيس الأمريكى الجمهورى. وذكر ماكفول (الذى ترك منصبه فى موسكو مع نهاية شهر فبراير الماضى) مثالا لذلك الرئيس بوش الابن والأزمة الجورجية عام 2008 ومن قبل تاريخ التدخل السوفييتى فى بودابست عام 1956 والرئيس أيزنهاور. الأزمة الأوكرانية وتعامُل واشنطنوموسكو معها.. تعد مواجهة دولية ومبارزة دبلوماسية ومناطحة عالمية، ودروس فى السياسة والتاريخ والتعاملات بين الدول، واستراتيجيات التقارب أو التباعد.. وفى كل الأحوال درْسٌ بالطبع لمن يتابع ويراقب ويحاول فهم ما يحدث ولماذا يحدث.