تخيلوا معى سفينة متهالكة، ركابها يبحرون بها فى مياه عميقة مضطربة، وهم أنفسهم مرتبكون وحائرون ومنقسمون وعقلهم الجمعى مأزوم لأسباب كثيرة يطول شرحها والخوض فيها الآن وتفسيرها قد يخرجنا من السياق، ولأنهم غير راضين عن رحلتهم الغامضة فى بحر الظلمات، تمردوا على قبطان السفينة ومعاونيه، وألقوا بهم فى البحر، لعلهم يعثرون على من يقودهم إلى اليابسة ويرسو بهم على بر الأمان، فهل يمكن أن يحدث هذا فى وقت قصير يقلل من معاناتهم الطويلة؟! قطعًا لا.. أولا: هى ليست سفينة عفية متماسكة، بل هى ضعيفة متهالكة، ولا يمكنها الإبحار بسرعة عالية بين أمواج صاخبة متلاطمة، وإذا سارت بتوازن دون أن تنقلب على رأسها ستأخذ وقتا أطول نسبيا للوصول إلى هدفها. ثانيا: تضارب مصالح الركاب فى «تحديد» البر الآمن أو الوطن الأمن، وهو تضارب ناتج عن تخلف وجهل وصراع أجيال وتكالب على المكاسب كالذباب الجائعة حتى لو غرقت السفينة نفسها، وبالطبع يعطل حركة السفينة وأحيانا ينحرف بها إلى مسارات وخطوط ملاحة فاسدة. ثالثا: عدد كبير من ركاب المركب استغل حالة السيولة التى على متنها وراح يعبث بكل شىء. ويقتطع مناطق فيها وتحجزها باسمه أو يستثمرها لحسابه. رابعا: عدد من البحارة الذين كانوا يعملون مع القبطان القديم يسعون للاستيلاء على السفينة والاحتفاظ بامتيازات قديمة كان ينهبها بطانة ذلك القبطان وعائلته وحزبه من ثروة أصحاب السفينة. خامسا: عدد من الركاب تحولوا إلى بحّارة جدد أرادوا قيادة السفينة وتغيير مسارها وهويتها، وحين فشلوا راحوا يحطمون فيها، لعلها تغرق بهم جميعا، أو يجبرون ركابها على التسليم لهم بالعودة إلى كابينة القيادة. سادسا: حماة السفينة من غزو القراصنة المبحرين فى سفن عملاقة هائلة غزوًا مباشرًا، وهؤلاء الحماة كانوا يعلمون مع القبطان القديم بالضرورة وما زالوا فى أماكنهم، ولا بديل لمنع سقوط السفينة أو غرقها، وهم بالفعل حريصون عليها حبًّا وانتماءً، وإن كانوا يتمتعون بامتيازات فى الثروة والسلطة يصعب التنازل عنها أو تقليصها، وتثير غضب عدد فاعل من الركاب. سابعا: أصحاب الميكروفونات على متن السفينة الذين يخاطبون الركاب صنعوا ما يشبه سوق عكاظ، فوضى عارمة اختلط فيها الجاهل بالعالم، المدّعى بالمفكر، الكاذب مع العارف، المهرج مع الشتام، الداعرات والنُّساك، فتفتت طاقة السفينة بين المشارب والاتجاهات، ولم تركز فى عملية الإنقاذ الأولية، فتعطلت ماكينات وتمزقت بعض الأشرع فأبطأت من عملية الإبحار. ثامنا: عدد قليل من المتمردين على السفينة أو من شاركوا فى صناعة التمرد ضد القبطان القديم، لهم مصالح خاصة مرتبطة بالقراصنة الطامعين فيها، يثيرون شعبًا واضطرابات وتوترات على متنها، ممولة من هؤلاء القراصنة حتى تسقط بين قبضتهم. تاسعا: ركاب الدرجة الأولى للسفينة بكل تياراتهم لا يملكون أى تصور عن كيفية إصلاح هذه السفينة إصلاحا شاملا يحميها من أخطار البحر الهائج، كلهم يقول كلاما متعارضا ومتناقضا وتافها. هذا بالضبط حال مصر فى الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، وهو حال طبيعى جدا وليس مستغربا، فالمصريون يدفعون ثمن الإبحار فى بحر الظلمات عشرات السنين، دون أى صيانة أو تحسين فى سفينتهم أو فى أساليب الملاحة الحديثة، وجلسوا ينظرون إلى السماء يدعونها أن تنقذهم وتنتشلهم من الغرق فى لُجة المشكلات المحيطة بهم، دون أى عمل حقيقى، كما لو أنهم لا يعرفون أن الله لا يغير أوضاع جماعة إلى الأفضل إلا إذا غيروا من أنفسهم، وحولوا كسلهم عملًا، وتواكلهم تُوكلًا وعلمًا ومعرفة. وهم الآن يبحثون عن الطريق، والطريق الصحيح ليس سهلا ومتاحا، لكل من هب ودب، وإنما له مشقة وثمن وتضحيات ودماء ودموع، حتى يحافظوا عليه حين يصلون إليه، هذا هو تاريخ البشرية منذ خلقها الله، وخبرة الحضارات الإنسانية، وقد بدأ المصريون السير والتنقيب، وهى عملية يحدث فيها غربلة لكل شىء فى حياتهم، فتطفو على السطح أسوأ ما فيهم وأيضا أفضل ما فيهم، وقد تكون هذه أول مرة منذ فترة طويلة يلعب فيها المصريون مع أنفسهم على المكشوف وبكل جرأة وأيضا بكل وقاحة، الأفكار عارية والمشوش مفضوحة، وهذه عملية صحية جدا، مثل صهر الحديد، يتطهرون فيها من حقائق كثيرة ويتعلمون صناعة المستقبل أكثر من الحسرة وراء الماضى. نعم هذه عملية ولادة متعثرة، نزيف وأوجاع وصراخ وعويل، والوليد دائما ما يخرج إلى الحياة وسط «دماء ملوثة»، كما ينشق الفجر فى أحلك لحظات الليل.