الفيلم القصير الجميل للفنانة ساندرا نشأت عن الاستفتاء على الدستور يثير الكثير من القضايا ويحمل الكثير من الرسائل التى ينبغى أن نقرأها جيدا. الفيلم الذى يحمل اسم «خليك فاكر» يقول إن الإبداع لا ينبغى أن يتوقف عند قوالب معينة، بل عليه دائما أن يقتحم الجديد ويخوض التجربة وقد فعلت ساندرا نشأت ذلك فقدمت فنًّا جميلًا يخاطب المشاعر والعقول، ولا يقف عند حدود التسلية، بل يحاول أن يكون ممتعا ومفيدا لأقصى درجة. الفيلم القصير حاول رصد ردود فعل الناس عن الدستور فى مختلف أنحاء مصر. أروع ما فى الفيلم هذا الصدق وهذه العفوية فى أحاديث المواطنين البسطاء. هؤلاء هم الناس الحقيقيون أصحاب هذا البلد الذين لا يظهرون فى التليفزيون والصحافة أو يدَّعون العلم بكل شىء. لكن هؤلاء هم منبع الحكمة فى هذه الأرض. هؤلاء يعرفون لمن يمنحون ثقتهم ولماذا؟ ويصدرون أحكامهم على القادة والأحزاب والسياسات دون لف أو دوران، فتكتشف المعنى الحقيقى لأن يكون الإنسان متحضرا، وتدرك أن الفلاح العجوز أو العامل البسيط الذى أمامك يملك من فيض حكمة هذه الأرض ما يجعله مثقفًا حقيقيا حتى إن كان لا يحسن القراءة والكتابة. ارجع -من فضلك- إلى التاريخ القريب أو البعيد. قبل ثورة يوليو 52 وفى ظل نسبة أمية تدور حول 90٪ وفقر ينهش الغالبية العظمى من أبناء الوطن.. هل جرت -فى هذه المرحلة- انتخابات حرة أو شبه حرة ولم تذهب فيها أصوات الناس للممثل الحقيقى لهم فى هذه الفترة وهو حزب الوفد؟! ثم.. بعد ثورة يوليو، ورغم التحديات والضغوط والحرب التى شنتها دول الاستعمار القديم ثم قادتها أمريكا بعد ذلك.. هل استطاع أن يهز الثقة التى منحها شعب مصر لزعيمه وقائده جمال عبد الناصر وهو يقوده على طريق التنمية والاستقلال ويبنى معه مصر التى يحلم بها؟! ثم.. تذكَّر -عزيزى القارئ- كيف وصل الإخوان إلى حكم مصر بعد أن سرقوا الثورة وبدعم أمريكا وأذنابها فى المنطقة.. فماذا حدث؟! بعد شهرين فقط كانت سخرية الشعب تقتل الإخوان «همه الخرفان علشان خرفان يعملوا كدهه»!! وبعد عام واحد كان الشعب يستخرج شهادة الوفاة لنظام فاشٍ لم يكن من الممكن أبدا أن يحوز ثقة شعب مصر بكل ميراثه الحضارى، وبكل وسطيته الدينية، وبكل قيمه فى المحبة والتسامح. ملمحٌ آخر فى فيلم ساندرا نشأت عن الاستفتاء. هذه الثقة التى يتحدث بها المواطن العادى مهما كان موقفه من الدستور، وهذا الأمل الذى يبدو فى نظرات عيون تغالب الإرهاق وتحلم بالغد الأفضل، وهذا التفاؤل عند ناس يعلم الله كيف يدبرون لقمة عيشهم فى كل يوم، ومع ذلك يعرفون -بحكمة التاريخ- أن مصر قد أدت لهم وأنهم قادرون على عبور الأزمة وبناء الوطن الذى يريدونه والمستقبل الذى يحلمون به لأولادهم. جانب آخر يستوقفنى مع هذا الفيلم القصير، تقول المخرجة ساندرا نشأت إن هذا الفيلم غيّر مسار حياتها. نزلت إلى الشارع الحقيقى فأدركت أن للبسطاء من شعبنا حقًّا لدى المبدين. والحديث هنا ليس عن السياسة بل عن الوطنية أن يدرك كل فنان حجم مسؤوليته تجاه المجتمع. أتوقف هنا، وأنا -فى نفس الوقت- أرفض الكلام الخايب الذى يردده البعض عن خيبة المثقفين أو فشلهم. فالمثقفون فى مصر تحملوا ما لم تتحمله جماعات المثقفين فى أى مكان آخر، ومع ذلك لم يتوقفوا عن النضال فى كل العصور. لكن القضية هنا أن نخلق الظروف لنهضة ثقافية قادمة رغم أنف الجميع.. أن تتحمل الدولة مسؤولياتها، وأن ينزل المثقفون للناس بعد أن سقطت الحواجز وانتهى الحصار. أن تهيئ المناخ لنهضة ثقافية وفنية مثل تلك التى أبدعتها ثورة يوليو فى الستينيات (وما أدراك ما الستينيات!!).. أن نتهيأ من الآن لكى نصل بإبداعنا فى كل المجالات إلى هؤلاء الذين شاهدناهم فى فيلم ساندرا نشأت فهم أصحاب الحق فى أن يحصلوا على رغيف الخبز الحلال وأن يتمتعوا أيضا بالفن الجميل والثقافة الراقية. بالمناسبة.. لماذا لا نعيد وزارة الثقافة للحياة، أو نبحث عن بديل لها؟!