أحيانا نتوقف أمام الخطوة الأولى وأحيانا نمر بها دون التوقف عندها. والخطوة تلك أو اللحظة إياها، إما أن نتذكرها دائما، وإما نريد أن ننساها إلى الأبد.. وأمام لحظة الخطوة نتساءل ونحتار: هل فعلًا الجرأة هى المطلوبة؟ أم الصدق مع النفس؟ أم الرغبة فى لملمة النفس والاستمرار فى معترك التفاصيل اليومية دون كلل أو ملل؟! وبالطبع ما أقساها تلك التفاصيل الصغيرة وهى تبتلعنا يوميا دون إنذار أو اعتذار. وما أحلاها أحيانا.. ولكن بعد حين عندما تصبح مجرد ذكريات نحكيها و«نتسلى بها» وتصير لحظات نقهقه بسببها أو ربما نذرف الدموع عليها.. وفى النهاية قد لا نهتم كثيرا إن كانت لحظات حلوة أو مرة.. طالما أنها كانت! والحمد لله أنها زالت! منذ أيام ومع انقضاء أيام حياة الزعيم الأسطورة نلسون مانديلا كانت للشاعرة الأمريكية مايا أنجيلو لحظة توقف وتأمل وتحليق بقصيدة جديدة تتحدث فيها عما بقى من مانديلا بعد أن جاءت «لحظة الموت».. وذهب بعيدًا عنا «ماديبا»، مَن تصورناه دائما أنه قريب وقريب جدا من أحلامنا كبشر و«بنى آدمين». أنجيلو الشاعرة التقت الثائر والمتمرد الإفريقى فى القاهرة عام 1961. وفيها حضرت مناقشات حادة حول التحرر والاستقلال، وهى مع زوجها مناضل آخر من جنوب إفريقيا. وهكذا نشأت لديها «الخطوة الأولى» ثم تتابعت الخطوات للتلاقى الإنسانى والارتماء فى أحضان الثورة (كفكرة وحلم) بأبعادها الإنسانية من أجل التحرر والتخلص من العبودية والعنصرية وقيود «قبول الأمر الواقع» فى أى مكان وفى أى زمان. وأنجيلو الشاعرة الأمريكية السوداء قالت من قبل «إن الطائر يغنى ليس لأن لديه ردًّا (على الأسئلة المطروحة) بل لأن لديه أغنية». وأنجيلو منذ أسابيع كانت فى نيويورك «تتغزل» فى متعة الكتابة وروعتها فقالت فى سبيل التذكرة والتنبيه للحاضرين «إن القراءة السهلة والممتعة بالتأكيد وراءها كتابة شاقة ومرهقة». وأنجيلو وهى فى ال83 من عمرها كانت تتحدث إلى مجموعة من كتاب مرموقين ومتميزين فى حفل توزيع جوائز الكتاب القومى المقام فى نيويورك. وتكلمت أنجيلو وهى على كرسى متحرك إلا أن بكلماتها وأفكارها أخذت تنطلق وتجرى بنا يمينا ويسارا وتحلق معنا شمالا وجنوبا وفى لحظة ما وأمام ذهول الحاضرين أخذت تدندن بكلمات («نعم، كات لديها أغنية») وهى تبتسم وتشكر الحاضرين المحتفين بها والمهمومين دائما بنعمة الكتابة ومتعتها ولذتها. ولا شك أن الكتابة سواء كانت «نعمة» أو «نقمة» لها لذتها ومتعتها. وترى هل صدمك وصف الكتابة بأنها «نقمة»؟ ألم نعتد أن نصف الكاتب بأنه الشخص الذى «أدركه الأدب» وغالبا ما «طاردته أشباح الخيال». أنجيلو بشعرها وحياتها وبتنقلاتها فى أماكن ترحالها وإقامتها ومنها مصر فى بداية الستينيات قالت وما زالت تقول الكثير باسم الطيور التى لا تقبل بالبقاء فى الأقفاص أو عدم الغناء. وهى كالطيور تحلق وتحلم بأن تحلق دائما قريبا كان أم بعيدا.. المهم أن تحلق، كما أنها تعرف كيف تغنى حتى لو لم تفارق القفص. أنجيلو هى التى قالت فى يوم ما «النجاح هو أن تحب ما أنت عليه، وأن تحب ما تفعله وأن تحب كيفية ما تقوم به وما تفعله». وكما اعتدت أمام مثل هذه اللحظات من الاندفاع الإنسانى (التى أتت بها أنجيلو) يأتى فى البال دائما العظيم نجيب محفوظ. ومحفوظ فى رواية «المرايا» وفى بداية البورتريه والصورة الخاصة ب«درية سالم» كتب هذه السطور.. حتى نتعرف عليها وندخل فى عالمها: «اسمحى لى أن أحييك.. فارتسم ظل ابتسامة على شفتيها فقلت متشجعا: غير معقول أن لا نتبادل تحية بعد ما كان.. فخرجت من صمتها قائلة: بعد ما كان؟ بعد ما كان من عشرة طويلة بين أعيننا.. فضحكت ببراءة وقالت: أقبل التحية هذه هى الخطوة الأولى هل توجد خطوات أخرى؟ ورواية «المرايا» نشرت عام 1972 وعلى الرغم من أن أكثر من أربعين عاما مرت بين ذاك الزمن وزمننا هذا الحالى فإننا أحيانا نقف أمام تلك «المرايا» (لنجيب محفوظ) لنرى انعكاسا وصورا للحظتنا الحالية. وبالطبع مع مرور الزمن تنوعت وتلونت الشخصيات من نساء ورجال فى المشهد المصرى الراهن. ولا شك أنهن وهن فى الوقت الحالى فى حاجة ماسة إلى مرايا جديدة ليس فقط لكى يروا أنفسهم من خلالها.. «ويزدادون تيهًا.. وإعجابا بأنفسهم» بل لكى نراهم نحن أيضا بشكل أوضح ونكتشفهم أكثر فأكثر ونتعرف عليهم، ومن ثم على أنفسنا وعلى ما جرى فى مصرنا وفى المصريين. ولكى نتبين ما يزال يعد ثمينا و«ذا قيمة» فى حياتنا وما صار تافها وسفيها فى واقعنا. و«صندوق أم الدنيا.. مصر» هذه الأيام بالطبع ملىء بحكايات وحواديث وأقنعة سقطت ووجوه تكشفت وقامات تشققت ومواقف تبدلت وأقلام «أكلت على كل الموائد» وساسة «حضروا كل الموالد» وبطولات «كانت زائفة.. فزالت مع الشدائد». «فقررررب واتفرج».. ومن يعرف؟ ربما تكون «عشرة طويلة بين أعيننا» مثلما كانت مع «درية سالم» هى التى دفعتنا للاقتراب والتعارف أو قد تكون بالفعل «خطوة أولى» وفاتحة خير لأخذ خطوات أخرى لكى نسير فى شوارع لم نَرْتَدْها من قبل أو نطرق أبوابا جديدة علينا وأيضا على من يسكنون بجوارها.. إنها دائما الحكاية والحكواتى والغريزة والرغبة ومتعة البحث ولذة الاكتشاف وقمة النشوة الإنسانية.. أن تقف على قمة جبل وترى آفاق الطبيعة من حولك وآفاق الحياة بداخلك.. شاسعة وممتدة وقادرة على احتضانك واحتضان ماضيك وحاضرك ومستقبلك. وأنت مع كل هذا قادر، بل وراغب أيضا فى احتضانها.. وهنا تبدأ حكاية أخرى كانت فى انتظارك وأنت اكتشفتها.. نعم، «خليها على الله» يا صائغ الحواديت وصانع الأساطير.. وأقبل عليها وابدأ حكاية جديدة.. و«النبى كملها».