جرى تقديم تركيا فى عهد أردوغان باعتبارها نموذجا لدولة إسلامية ديمقراطية، دولة تَدين الغالبية الساحقة من شعبها بالإسلام، وتمكنت من إرساء أساس لنظام ديمقراطى وفق المعايير الغربية، وجرى تقديم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان باعتباره نموذجا لحزب ذى مرجعية إسلامية تمكَّن من تحقيق المعادلة الصعبة بالمزج بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية ومبادئ هذا الحزب التى تؤكد المرجعية الإسلامية. قدم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان نفسه للمجتمع الغربى، الأوروبى تحديدا باعتباره مجتمعا غربيا يطبق المعايير الأوروبية فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية ومن ثم طالب بضم بلاده إلى الاتحاد الأوروبى. وروج وزير خارحية أردوغان، أحمد داوود أوغلو، لسياسة خارجية جديدة متصالحة مع الجميع سمّوها «صفر مشاكل»، أى السعى الحثيث لتسوية كل الخلافات وحل كل الصراعات مع دول الجوار، وسمّوا ذلك «العثمانية الجديدة». واندفعت دول الخليج العربى إلى دعم هذه التجربة فوجَّهت رأس المال للاستثمار فى تركيا دعمًا للنموذج والتجربة وسعت للاستفادة من خبرات تركيا فى شتى المجالات حتى شهدنا حالة من الانسحاق الشعبى أمام تركيا، وأخرى من الانبهار بالرجل والنموذج، وهناك من صلَّى لله أن يمنح بلده زعيما مثل أردوغان كى يأخذ بيد بلاده إلى طريق التنمية والتطور. نجح أردوغان بالفعل فى بناء نموذج فى التنمية السياسية والاقتصادية، وفى تهدئة الخلافات مع دول الجوار، وبدأت تركيا تخفف من ضغوطها لدخول الاتحاد الأوروبى، فقد باتت الدولة الأبرز فى العالم الإسلامى وتطلعت إلى قيادته والتعبير عنه وسعَى أردوغان بالفعل إلى قضايا شعبية للحصول على مزيد من الشعبية فى العالمين العربى والإسلامى، ونفهم هنا موقف أردوغان من القضية الفلسطينية والمبالغة فى رد فعله تجاه العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة. وكانت تركيا من أوليات الدول التى رحّبت بما سمِّى «الربيع العربى»، إذ دعمته وساندته فى تونس ومصر وليبيا، وتدخلت مباشرة فى سوريا، وتحولت تركيا من سياسة «صفر مشاكل» إلى الدخول فى صراع مفتوح مع النظام السورى، وتحولت إلى بوابة عبور المقاتلين من شتى الجنسيات إلى الأراضى السورية، وتبنَّت تماما موقف الأطراف المعادية للنظام وقادت حملة إقليمية ودولية للتدخل العسكرى فى سوريا. وجاء فوز محمد مرسى بمنصب الرئيس فى مصر، وبدأ زمن حكم المرشد والجماعة ليسقط القناع تماما عن وجه أردوغان ويكشف حقيقة انتماء الرجل إلى التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، فقد أدى فوز مرسى بداية إلى تغيير لغة خطاب أردوغان وأركان نظام حكمه لتصبح لغة قريبة من تلك التى ترددها الجماعة، ليتحول أردوغان من رئيس وزراء ديمقراطى إلى مسؤول غاضب يضيق صدره بالنقد، يكرر مفردات مرسى والمرشد من أنه منتخَب، ولديه قاعدة جماهيرية يمكن أن تنزل إلى الشوارع وتدافع عنه، وأنه مستعدّ للدفاع عن شرعية الصناديق بالسلاح. وما إن قامت ثورة الثلاثين من يونيو حتى تعرَّى أردوغان ونظام حكمه تمامًا، فقد أدى إسقاط الشعب المصرى لحكم المرشد والجماعة إلى إصابة أردوغان بحالة هياج دفعته إلى تكريس كل الوقت والجهد للهجوم على النظام المصرى الانتقالى ووصْفه بالانقلابى، بل إن الرجل أقدم على تصرفات «طفولية» وجاء بحركات «صبية الملاعب» مثل رفع شارة «رابعة العدوية» فى أحد المؤتمرات الصحفية. وتفرَّغ أردوغان للهجوم على النظام المصرى الانتقالى وعلى الشعب المصرى، وحوَّل بلده إلى مقر لفلول الجماعة الفارين من مصر، كما استضاف اجتماعات التنظيم الدولى للجماعة وشاركت أجهزته الأمنية فى التخطيط لإثارة القلاقل فى مصر. بالغ أردوغان فى عدائه لمصر وشعبها بعد إسقاط حكم المرشد والجماعة، فردَّت مصر بطرد سفيره وتخفيض العلاقات الدبلوماسية مع بلده، كما ردَّت دول عربية خليحية تضامنا مع مصر وثورة شعبها بسحب استثمارات من تركيا، ووقف شراء المسلسلات التركى، ووقف مشروعات استثمارية جديدة... وسرعان ما انكشف أردوغان ونظامه، فقد عصفت قضايا فساد بنظام أردوغان، ذلك النظام الذى جرى الترويج له باعتباره نظاما يستند إلى الشفافية والمحاسبة، فقد كشفت وسائل الإعلام التركية عن تورط عدد من وزراء أردوغان فى قضايا فساد وأن الفساد طال نجل أردوغان الذى هرب خارج البلاد، تصاعدت الأحداث فاستقال ثلاثة من من الوزراء، سارع الرجل بإجراء تغييرا وزاريا استُبدل فيه عشرة وزارء، ولم تنجح هذه الإجراءات فى علاج الأزمة فقد بدأت المظاهرات تخرج مطالبة برحيل أردوغان، ولجأ الأخير إلى الأجهزة الأمنية لقمع المتظاهرين فانكشف الرجل ونظامه وواجه أولى خطوات الانهيار الذى بات آتيًا لا محالة. الطريف فى الأمر هو حمل بعض المتظاهرين الأتراك صور وزير الدفاع المصرى الفريق أول عبد الفتاح السيسى فى خطوة لها عشرات المعانى، والأكثر طرافة حديث أردوغان عن «أصابع» المخابرات المصرية فى الأحداث الشعبية التركية.