كنت أتمنى لو أن الظروف قد سمحت لرئيس الجمهورية بالسفر إلى جنوب إفريقيا، ليشارك فى الوداع الأخير للزعيم نيلسون مانديلا، فمصر تحتاج إلى تأكيد وجودها الإفريقى فى هذا الوقت أكثر من أى وقت مضى. ومع ذلك فلا شك أن الدولة أحسنت بقرارها أن يرأس الوفد المصرى لعزاء شعب جنوب إفريقيا الأستاذ محمد فايق رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان. محمد فايق هو الوجه المصرى الأبرز فى علاقاتنا بإفريقيا منذ ثورة يوليو، وهو الرجل الذى ربطته بمانديلا وبكل الزعماء التاريخيين لإفريقيا أوثق الروابط منذ أن كان المسؤول عن شؤون القارة السمراء وحركات التحرير فيها بجوار جمال عبد الناصر. وحين كانت القاهرة هى المكان الذى يجمع كل مناضلى إفريقيا ضد الاستعمار والعنصرية. لم تكن مصر دولة ثرية فى ذلك الوقت، ولكنها كانت تعرف أنها دولة دور، وأن دورها أن تقود حركات التحرر وأن تدعم استقلال الشعوب. وكانت تعرف أن ذلك هو ما يمنحها المكانة ويضمن لها الأمن ويعطيها الفرصة لتحقيق ذاتها. لم تكن مصر تملك الكثير من الإمكانيات المادية، ولكنها كانت كعبة الثوار وهم يناضلون من أجل الحرية والكرامة، كانت مصر تملك الرؤية المنحازة لكفاح الشعوب، والزعامة التى تجسد الكرامة الوطنية، والتجربة التى غيّرت وجه التاريخ حين انتصرت فى معركة السويس، فكتبت شهادة الوفاة لأكبر إمبراطوريتين استعماريتين فى ذلك الوقت «بريطانيا وفرنسا»، وفتحت أبواب الأمل أمام شعوب إفريقيا وكل شعوب العالم التى كانت لا تزال تعانى من استعمار فرض عليها التخلف وحكمها بالحديد والنار. كان مانديلا أحد هؤلاء القادة الوطنيين الذين وجدوا فى القاهرة الداعم الرئيسى لكفاح شعوبهم ضد الاحتلال والعنصرية، ولم ينسَ الرجل ذلك أبدًا، وظل طوال حياته يذكر فضل مصر ويحمل لها كل المحبة والتقدير، قبل اعتقاله مباشرة كان مانديلا فى القاهرة، وكان محمد فايق قد رتّب له موعدًا مع عبد الناصر، لكن أحداثًا طارئة أجّلت اللقاء، واضطر مانديلا إلى السفر على أساس أن يعود بعد بضعة أسابيع، لكنه وقع فى قبضة السلطات العنصرية فى جنوب إفريقيا، لتبدأ رحلة سجنه الطويلة. وعندما خرج مانديلا من السجن كانت مصر فى مقدمة الدول التى يزورها، وعندما لم يجد فى برنامج الزيارة لقاءه مع محمد فايق، أصر أن يكون هذا هو أول شىء يفعله فى القاهرة.. وقد كان، وبعدها ذهب إلى ضريح عبد الناصر آسفًا على لقاء لم يتم قبل 27 سنة مع الرجل الذى جعل من القاهرة عاصمة التحرر لكل شعوب إفريقيا. على مدى السنين بعد الانقلاب على توجهات ثورة يوليو الداخلية والخارجية، بدّدنا الكثير من هذا الرصيد الذى كان لنا فى إفريقيا وفى العالم كله، وضعنا أوراق اللعبة فى يد أمريكا وفقدنا القرار المستقل والحركة التى تعرف مصالح مصر وتنسج علاقاتها مع العالم فى هذا الإطار، تركنا الأمور تتدهور حتى صحونا على الخطر وهو يهدد مياه النيل، وكل الأطراف -بما فيها إسرائيل- تعبث فى هذا الملف الخطير. طوال تلك السنين كنا نطالب باستعادة دور مصر الإفريقى، وبتشكيل مجلس أعلى للشؤون الإفريقية يتولّى وضع السياسات المصرية فى هذا الملف، لكن النظام كان قد استكان إلى التقوقع داخل الحدود، انتظارًا لمصيره. بعد 30 يونيو كان لا بد من التغيير الحقيقى والبناء على قاعدة أن مصر قد استعادت قرارها المستقل وعليها أن تستعيد دورها وأن تحمى مصالحها وأن تخرج من دائرة التبعية التى كادت تهدد حتى مياه النيل!! فى وداع مانديلا.. نتذكر أيامًا ما زالت شعوب إفريقيا تعتز بها حين كانت مصر هى الداعم الأساسى لنضال هذه الشعوب من أجل الحرية والكرامة والتقدم، ونتطلع إلى مستقبل تعود فيه مصر لدورها الإفريقى الذى لا غنى عنه لمصلحة الجميع.. حيث آفاق التعاون المشترك بلا حدود، إذا امتلكنا الرؤية والإرادة والقرار المستقل كما امتلكناها من قبل، فكانت مصر هى النموذج الذى ينشده مانديلا وكل الزعماء التاريخيين لحركات التحرر والاستقلال فى القارة السمراء.