عاش المؤلف طفولته وصباه فى حى الخليفة الذى يجمع بين عائلات غنية تسكن فى منازل مستقلة ذات حدائق وأسوار عالية كان الطفل سيد يذهب فى إجازة الصيف إلى والده الذى يعمل تاجر جملة لمنتجات البقالة فى الوكالة بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لمولد الدكتور سيد عويس، نعيد إلقاء نظرة على كتابه (التاريخ الذى أحمله على ظهرى) وهو العنوان الذى اختاره لسيرته الذاتية، والذى يخصص أكثر من نصف جزئه الأول للحديث عن طفولته وشبابه الأول. عاش المؤلف طفولته وصباه فى حى الخليفة، وهو حى كان يجمع بين عائلات غنية، تسكن فى منازل مستقلة ذات حدائق وأسوار عالية، وعائلات أخرى فقيرة، يسرح أفرادها طوال النهار، حفاة فى الشوارع بحثًا عن الطعام، وكان أغلب الفقراء يعملون فى المقابر متسولين، حيث تقع على أطراف هذا الحى أكبر قرافات القاهرة حجمًا، وهى القرافة الجنوبية التى تمتد حاليا لنحو ثلاثة كيلو مترات بين شارع صلاح سالم وبركة عين الصيرة. كان هذا التناقض بين الغنى والفقر هو أول ما لفت انتباه المؤلف طفلًا إلى وجود طبقية اجتماعية. كان ثالوث الفقر والجهل والمرض واضحًا لعين المؤلف منذ أن كان طفلا، إذ إنه يتذكر فى ما يتعلق مثلا بالجهل، كيف كانت سيدات أسرته الثرية نسبيا تجتمعن حول سيدة كانت تحضر مرة كل أسبوع، لقراءة طوالع سيدات الأسرة فى فناجين القهوة، وكانت كل سيدات الأسرة دون استثناء أميّات، وكانت ثقتهن كبيرة جدا فى ما كانت تقوله قارئة الطالع تلك، التى كان يتوقف على ما تقوله الكثير من الأمور، إذ إنها كانت تعتبر لديهن مرجعا هاما فى مسائل كثيرة تتعلق بالحياة اليومية وبالمصائر. من مشكلات طفولة المؤلف، أنه كان قد رأى والدته تحبل وتلد عدة مرات، أطفالا ذكورا وإناثا إخوة وأخوات له، إلا أن كل هؤلاء الأطفال ماتوا قبل بلوغ العام الأول من العمر، إما بسبب سوء الأحوال الصحية بشكل عام، أو بسبب الجهل وضعف التغذية، والوحيد من أبناء والديه الذى بقى هو المؤلف نفسه. كانت معدلات وفيات الأطفال فى مصر مرتفعة جدا فى ذلك الوقت، إذ إنه من بين كل ثلاثة أطفال يولدون يموت طفل قبل أن يبلغ عامه الأول. عندما تزوج أحد أعمامه من فتاة كان أبوها (أفنديا)، شاهد المؤلف لأول مرة فى حياته سيدة من العائلة تعترض على أمر موجّه لها، فقد رفضت أن تنظّف فناء المنزل، حيث يقف الحمار، ثم أعلنت التمرد على الأوضاع السائدة داخل العائلة والخاصة بالسيطرة التامة للرجال على النساء، والخضوع التام من النساء للرجال، وقد حرك تمردها هذا الأمل فى غد أفضل فى قلوب كل نساء العائلة، وهنا كان المؤلف الطفل قد أدرك حقيقة أخرى من حقائق المجتمع المصرى فى ذلك الوقت، وهى حقيقة دونيّة، وضع المرأة بالمقارنة بوضع الرجل. كان فى السادسة من عمره عندما حدثت ثورة سنة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى، ويتذكر المؤلف المظاهرات التى عمّت جميع أحياء القاهرة بما فيها حى الخليفة، وكيف غضب جده على أعمامه الذين شاركوا فى هذه المظاهرات، بسبب خوفه عليهم من رصاصات الإنجليز الطائشة. كان الطفل سيد قد أدرك بُعدًا آخر من أبعاد حقيقة الأوضاع فى مصر فى ذلك الوقت، التى كان يحتلها الجيش الإنجليزى. فى سن الثامنة يتذكر المؤلف تجربة مؤلمة، هى عملية الختان التى أجريت له على يد حلاق الصحة، وهو الحلاق الذى كان يتولى الحلاقة للمرضى فى المستشفيات الحكومية، وبالتالى كان هذا يعطيه قدرًا من المهابة فى عيون الناس البسطاء، مما كان يجعلهم يستعينون به فى العمليات البسيطة. فى هذا المجال كانت مظاهر التخلف لا تزال عديدة، إذ يذكر المؤلف استمرار علاج الأمراض بالأحجبة والأدعية والأبخرة، ويذكر أن اللجوء إلى الطبيب كان فقط فى حالة وصول المريض إلى مرحلة النزع الأخير، وقد يكون ذلك بسبب الجهل، أو لعدم الثقة فى الأطباء، أو لعدم وجود العدد الكافى من الأطباء، أو ببساطة لضيق ذات اليد. كان الطفل سيد قد حصل على بذلة كاملة ببنطلون طويل عند دخوله إلى المدرسة الابتدائية، وقد أضاف والده إلى البذلة هدية قيّمة جدا هى تفصيل حذاء جديد للطفل سيد، وشراء الطربوش كان لا غنى عنه فى ذلك الوقت كغطاء للرأس، رغم أن الطفل سيد لم يكن قد تعدى بعد سن الثامنة. ترتبط ذكريات اليوم الأول فى المدرسة الابتدائية بضرورة تعلم طريقة استعمال الشوكة والسكينة لأول مرة فى مطعم المدرسة، الذى كان يقدم وجبات مجانية لكل التلاميذ. نحن فى أول أكتوبر سنة 1921. يذكر المؤلف أن التكافل العائلى كان من المظاهر الإيجابية فى ذلك المجتمع البسيط، وكانت المحبة بين أفراد الأسرة الكبيرة تجعل الجد والأعمام يتكفلون بشراء الملابس الجديدة لجميع أفراد الأسرة فى المناسبات المختلفة، فمثلا فى بداية شهر رمضان كانوا يشترون معا مئات الأمتار من الأقمشة المختلفة الألوان، توزّع بالتساوى على جميع أفراد الأسرة، من يعمل منهم ومن لا يعمل، وكانوا يقيمون جميعا فى نفس البيت بطوابقه الثلاثة. كان هذا يحدث مرة واحدة فى العام على الأقل، وكان الخياطون والخياطات يأتون إلى المنزل لتفصيل تلك الأقمشة، وتحويلها إما إلى جلابيات رجالى، أو إلى جلابيات حريمى، وأحيانا إلى بِذل أو قمصان للذكور من الشباب، كلٌّ حسب هواه، ولكن كانت كل الملابس تفصّل من نفس القماش. كان الطفل سيد يذهب فى إجازة الصيف إلى والده فى الوكالة، حيث عمِل الوالد تاجر جملة لمنتجات البقالة، وهناك كان يجد عددا من أصدقاء الوالد فى انتظاره جلوسا أمام باب الوكالة، حتى يقرأ لهم الأخبار فى الجريدة اليومية، فإن أحدا منهم لم يكن يعرف القراءة، يقول المؤلف (وهنا أدركت كيف أن المعرفة هى سبيل الإنسان الوحيد للتحرر من القيود المعنوية التى تصيب التفكير السليم بالشلل، وأن المعرفة بالتالى هى نقطة البداية للوصول إلى الحرية، والتى لا يبقى الإنسان إنسانا بدونها). يتذكر المؤلف ذهابه إلى مسرح على الكسار فى روض الفرج مع والده خلال الإجازة الصيفية، وكانت رحلتا الذهاب والعودة بالترام بين حى الخليفة وحى روض الفرج من أكثر ذكريات تلك السهرات إمتاعا، ولا يتذكر المؤلف خروج أمه معهما هو وأبيه، إلا لزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، ففى تلك الحالة يكون الوالد قد اتفق مسبقا مع حنطور لانتظارهم على رأس الشارع للذهاب بهم إلى تلك الزيارة. بمناسبة دخوله امتحان الابتدائية، طاف بأضرحة أولياء الله الصالحين والصالحات، ضريح الإمام الشافعى، وضريح السيدة عائشة، والسيدة نفيسة، والسيدة رقية، والسيدة سكينة. وكان المؤلف قد ترك فى شباك ضريح الإمام الشافعى رسالة على قصاصة ورق موجّهة إلى الإمام، طالبًا منه فيها العون لاجتياز الامتحان بنجاح. وما زالت عادة الاستعانة بشفاعة أولياء الله الصالحين، للتوجه بطلبات إلى الله، سائدة فى المجتمع المصرى بين مسلميه ومسيحييه. نجح سيد فى الامتحان، وحصل على شهادة الابتدائية فى صيف سنة 1926، وأصبح يحمل رسميا لقب أفندى، وكان بذلك الوحيد فى عائلته الكبيرة (جده وأعمامه وأبيه) الحاصل على هذه الشهادة فى ذلك الوقت. وفى سن السابعة عشرة، عندما كان سيد فى منتصف عامه الدراسى الرابع فى المدرسة الثانوية، مات أبوه، فاضطر إلى أن يحل محله فى إدارة الوكالة، لبيع المواد البقولية بالجملة لتجار التجزئة. ودام ذلك لمدة عام حتى وفاة جده، وحيث إن والده كان قد مات فى حياة جده، فإن سيد لن يرث والده، وبذلك فقد ذهب الميراث كله إلى العم الذى كان جَشِعًا، فأخذ الوكالة من سيد الذى حاول أن يبحث عن وظيفة حكومية بالشهادة الابتدائية، حتى وجدها فى مصلحة الحدود، حيث تم تعيينه موظفا كتابيا فى قلم الأرشيف، ثم فى قلم التوريدات، حتى سنة 1937، وكان فى الرابعة والعشرين من عمره، حين قرر ترك الوظيفة والعودة إلى الدراسة للحصول على البكالوريا فى نفس العام. بدأ المؤلف الدراسة فى المدرسة العليا للخدمة الاجتماعية، عند افتتاحها بالقاهرة فى أكتوبر سنة 1937، وفى إطار الدراسة الميدانية نزل وحده لزيارة أسرة حدث جانح من ملجأ السيوفية، كانت الأسرة تقيم فى منطقة الخارطة الجديدة بمنقطة الخليفة، كان ذلك اليوم الأول فى البحث الاجتماعى واحدا من نقاط التحول الهامة فى حياته، إذ أدرك مدى بؤس الواقع الذى يعيش فيه جزء كبير من الشعب المصرى، عندما فوجئ بأن أسرة الحدث تعيش فى حوش قرافة، وأن الأثاث الذى تمتلكه لا يتعدى الحصير الذى ينامون عليه، وأن الحدث له على الأقل عشرة من الإخوة والأخوات الأصغر منه سنًّا، لا يجدون إلا الأسمال البالية يرتدونها، وإلا أكوام الزبالة يتغذون عليها من بقايا موائد القادرين، وأن وجوههم قذرة يغطيها الذباب، إذ لا ماء لديهم ولا مجارىَ. لحظة مصيرية أدرك بعدها المؤلف أن جنوح الحدث، وأن إجرام الشخص البالغ، لا ينفصل بأى حال عن ظروف بيئته، فإذا وجد الإنسان بيئة صالحة لنمو طبيعى، أصبح إنسانا طبيعيا، وإذا وجد العكس، أى أن الظروف كلها ضده، فإنه لا محال من تحوله إلى الإجرام، والخلاصة هى أننا يجب أن نوفر بيئة جيدة للأفراد قبل أن نحاكمهم، وأنه إذا كان هناك أفراد غير صالحين فى مجتمعٍ ما فإن الخطأ الرئيسى يعود إلى هذا المجتمع، لأن المجتمع غير الصالح هو الذى يفرز أفرادا غير صالحين. عندها قرر المؤلف أن يَهَبَ حياته كلها للبحث الاجتماعى باقتناع تام، وذلك لمعرفة واقع هذا الشعب وكيفية مساعدته فى التغلب على الصعاب، وهكذا بعد حصوله على دبلوم المدرسة العليا للخدمة الاجتماعية سنة 1941، استأنف طريق الدراسات العليا حتى حصل على الماجستير ثم الدكتوراه فى العلوم الاجتماعية من جامعة «بوسطن» بأمريكا سنة 1956. تحية إليك أيها الإنسان المصرى المحترم.