كان الحديث يدور حول ما آلت إليه الأمور في السياسة والاقتصاد، كيف انغلق الأفق السياسي، وانحدر الوضع الاقتصادي، وكان المتحدثون منفعلين -بل غاضبون- يبحثون عن إجابة لسؤال واحد: ما العمل؟ في الخلفية كان تليفزيون المقهى الذى نجلس عليه غاضبًا أيضًا بسبب طوفان الأغاني الوطنية التي تبثها الفضائيات تزامنًا مع انعقاد المؤتمر الوطني للشباب في شرم الشيخ، كانت فواصل كل الفضائيات تضج بالوطنية وإعلان حالة الاستنفار، مشهد يليق بارتباك وصل إلى درجة غير مسبوقة. لسبب ما تذكرت موسيقى فيلم "خرج ولم يعد" من إخراج الراحل محمد خان، وسيناريو وحوار عاصم توفيق، فاقترحت على أصدقائي أن ننهي حديث السياسة ونتكلم في الموسيقى، نتكلم في أي شيء إلا الشأن العام والواقع الصعب، نتحدث كيف وصل الزمالك إلى نهائي دوري الأبطال الإفريقي ولم يفز، نتحدث عن سخرية الأهلاوية المُرة وصمود الزملكاوية المعهود، نتحدث عن كل شيء إلا الرئيس والحكومة والبرلمان. لقي اقتراحي قبولًا، فأمسكت بالتليفون وكتبت اسم "كمال بكير"، واخترت موسيقى "خرج ولم يعد" من الساوند كلاود، هنا يظهر بشكل تلقائي وجه عطية "يحيى الفخراني في الفيلم" وهو ذاهب إلى بيت خطيبته قبل السفر إلى قريته لبيع الأرض التي ورثها حتى يدبر نفقات الزواج، صورة تلخص حالنا الآن: الانكسار، قلة الحيلة، العجز، انحناءة الرأس الذي كان قبل قليل مرفوعًا ينظر إلى شباك الحبيبة علَّها تظهر. كل هذا المشهد على إيقاع حزين، البطل فيه جملة الكمان الطويلة الموغلة في الأسى وضربات بطيئة -مثل أيامنا- على الرِّق، وبينهما صوت طفل صغير. وصفٌ موسيقيٌّ بليغٌ للهوان الذى اعترى معظمنا في هذه الفترة. منذ فترة وأنا أبحث عن صورة للموسيقار كمال بكير، كيف كانت ملامحه؟ لا بد أنها كانت مصرية خالصة. للأسف لا توجد سوى صورة واحدة في موقع "السينما.كوم"، بالأبيض والأسود، وجه حاد، شارب كث، شعر غزير. أما المعلومات عن حياة الرجل فتكاد تكون معدومة، هى نادرة للغاية، وكلها تشير إلى أنه قام بتأليف الموسيقى التصويرية لعشرة أفلام، ثمانية منها من إخراج محمد خان "الرغبة، 1979، ضربة شمس، 1980، موعد على العشاء، 1981، طائر على الطريق، 1981، الثأر، 1982، خرج ولم يعد، 1984، عودة مواطن، 1986، سوبر ماركت، 1990"، وفيلم "سواق الأتوبيس، 1982" من إخراج عاطف الطيب، وفيلم "مبروك وبلبل، 1998" من إخراج ساندرا نشأت. حتى تاريخ رحيله غير واضح، حيث جاء في ويكيبيديا عام 2010 وفي موقع السينما يناير 2008. تستطيع بسهولة أن تميز موسيقى بكير، الآلات الشرقية هي صاحبة السطوة والنفوذ، وتحديدًا القانون والطبلة والرق. كل آلة تضفي على المشهد الذي تتحرك بداخله بعدًا جديدًا، حتى إن بعض جمله الموسيقية هي البطل الحقيقي في المشهد. قررنا نحن الجالسين على المقهى أن نلعب لعبة، يقوم كل شخص باختيار موسيقى فيلم، ويقوم بتركيبها على المشاهد التى تجري من حولنا. بدأت أنا واخترت فيلم "ضربة شمس" ووضعت شريط المزيكا على مشاهد مؤتمر الشباب، كانت الموسيقى تفي بالغرض تمامًا، إيقاع لاهث، غموض يتناسب مع الحدث الذي حشدت له الدولة فلذات أكبادها من الشباب والشيوخ، إثارة تليق بأحاديث صاخبة وجمع متحمس لللا شيء. في الفيلم كان شمس (نور الشريف) مصور شاب يعشق المغامرة، ويرى أن الكاميرا قادرة على اقتناص لحظة الحقيقة، بالضبط كما تحدث الشباب في المؤتمر عن الفرص التي تلوح في أفق مصر، رغم كيد الكائدين. صديق آخر أعجبته اللعبة فاختار موسيقى "موعد على العشاء" خلفية للحدث الجَلَل الذى عاشته مصر في أثناء افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة. يدخل البيانو بجملة حالمة للغاية تستطيع أن تسميها العلاقة بين الشعب والحكومة (أحمد زكي وسعاد حسني) دون حساب من كان يقف بعيدًا (حسين فهمي) لتأتي النهاية كما نعرفها جميعًا، موت الثلاثة. من بين كل الجمل الموسيقية الفاتنة لكمال بكير تعتبر جملة مشهد ما قبل النهاية في فيلم "سواق الأتوبيس" هي الأجمل على الإطلاق، عندما يستطيع حسن (نور الشريف) توفير فلوس الضرائب حتى لا يتم الحجز على الورشة، لكن والده (عماد حمدي) يكون قد رحل، (اسمعها وانت تعرف). أيًّا كان موعد رحيل بكير، المؤكد أن شريط موسيقاه يجري في مشاهد أيامنا مثل طائر على الطريق.